الثلاثاء، 8 سبتمبر 2009

الرسام صدر الدين أمين يؤسس تجربته من تواشج بساطات ثلاث: شكلية ومادية وتقنية

نسق فني (خارج ثقافي the outsider art)



مثلما اجمع النقاد عندنا على ان (التعبير عن الروح المحلية) او الفولكلور العراقي هو جوهر تجربة الرسام فيصل لعيبي، لم يكن صدر الدين أمين، الفنان العراقي المغترب ليخرج كذلك عن توصيف اجمع غالبية النقاد عليه، حينما كانوا يصفونه بأنه فنان بدائي، لكن ما يثير الغرابة حقا أنهم لم يكونوا يكترثون إلى أهمية تبرير حكمهم، فلم يعرض اغلبهم أسباب مسلّمتهم هذه، وكان ذلك راجع على الأغلب بسبب ما يرونه من درجة الهوس التي كان يبديها الرسام صدر الدين أمين بالمحيط، والبيئة، وموجوداتهما من الكائنات التي يتخذها وسيلة بصرية بهدف الكشف عن المعطيات الجمالية الكامنة في ثنايا الكيان المحيطي
بصفته موضوعه الأثير وربما الوحيد، بينما تشكل لقى ذلك المحيط بوابة الفنان إليه، وهي بوابة ذات اتجاه نسغي ارتدادي، يبدأ من ذات الفنان نحو لقى المحيط، ويعود إليها؛ مما يؤكد اعتبار تجربته واحدة من التجارب التعبيرية ــ التجريدية العراقية التي تستلهم المحيط، وتحاول أن تَسِمَ ما تضمه من لقى المحيط بالقناعات الشكلية التي يؤمن الرسام صدر الدين أمين بها، والتي يبني وفقها منظومته الشكلية، ففي الوقت الذي آمنت فيه أعداد غفيرة من الرسامين العراقيين ان موضوع اشتغالها مستحثات الجدران العتيقة، فاتجهوا إلى تلك الجدران يستقرئون مستحثاتها الشكلية في السطوح التي يستنطقونها، ويجرون بحوثهم الأركولوجية عليها؛ لاكتشاف كوامنها الإشارية والعلاماتية، ومعالجة نسيجها، وإجراء تجاربهم عليها، باعتبارها مقطعا عرضيا، او شريحة نسيجية تحمل واقع الحياة الإنسانية في اصغر تفصيلاتها، من خلال اكتشاف مخلفاتها التي تشكل أثرا لمرور إنساني ترك إشارته على سطح المحيط: كتاباتٍ وآثاراً وحزوزا، ولكن صدر الدين أمين لم يرغب في تتبع آثار أولئك الرسامين وسواهم، فاتجه متجها داخليا حينما بدا يملأ سطح لوحته بكل ما حملت ذاكرته من كائنات عايشها طويلا؛ فاندغمت؛ وصارت جزءا من وعيه بالشكل في تداخله مع الطبيعة؛ فظهرت لوحته وهي تضم حشدا خليطا من البشر الذين يرتدي بعضهم أقنعة، ويضع بعضهم قروناً كما كان القدماء يرسمون السحرة على شكل شامانات، او حيوانات خرافية تمتزج أشكالها بحشود لا حصر لتنوعها من: اسماك، وقطط، وثعابين، وسلاحف، وطيور، و أقمار، ونجوم، وشموس، ونباتات، وزواحف، وأشجار، وورود في كرنفالات تشترك فيها كل هذه الجموع، لتمثل هذه الحكايات والأساطير معينا أساسيا في تشكيل البنية الثقافية المستمدة من الميثولوجيا الشعبية لمناطق الغابات الجبلية في العراق والتي أعاد صدر الدين أمين صياغتها من خلال فن عالي التقنية والصياغة البنائية.
كانت موضوعاته مليئة بالتماعات البراءة وسلطتها على الأشياء، غير عابئة بردود الفعل حول مدى التوافق بين تصوراتها وبين حقيقية تلك الأشياء، فمهما تكون الفكرة (ساذجة) بمعنى فطرية، او بمعنى أدق ان تكون خارج النسق الفكري (الحضاري) المهيمن؛ فإنها تشكل جوهرا رفيعا وحرا للمخيلة، نعده من مكملات الوعي (العقلاني).
فكانت الحكايات والخرافات والمعجزات والسحر تعبيرا عن حلم الإنسان وعن هدفه العظيم وكانت تلك الفنون (الخارج ثقافية) ” نمطا من الجمال النابع من السجية التي لم تشوهها الأحداث والنظريات وتقنيات الثقافة فتدثرت بدثار البساطة والعمق” فكانت هذه التجارب الفطرية متجاوزة لكل القيم المقبولة والمحظورة معا فيما يخص القواعد التي تموضع عليها الفن الرسمي المنتمي إلى قيم الثقافة؛ فكانت تسحر بموادها وتقنياتها وأشكالها المتجاوزة، وكانت فنونا تضرب بجذورها في عمق اللاوعي الجمعي البشري والفنون ( البدائية) والشعبية وفنون الأطفال والمرضى العقليين وقبلها فن الكهوف وفن الأقوام (غير المتحضرة) وهي كلها تستمد قيمها من البساطة الشكلية والمادية والتقنية في (نسق قيمي) تحتل فيه هذه البساطات الثلاث المرتكز الأساس من خلال تواشجها مع بعضها دونما انفكاك، ودونما قواعد مفروضة خارج هذه البساطات الشيئية.
يبدو ان قناعة صدر الدين أمين كانت تتجه في منجزه الأخير نحو تكريس إشارات المحيط باعتبارها أيقونات، على تنوعاتها الشكلية ومكونات أساسية في بناء العمل الفني؛ لأنه لم يكن يهدف إلى استضافة (المرجع) ليستنسخه بأية درجة كانت من التفاصيل على سطح اللوحة؛ فنسخ الشكل لم يكن من أهدافه بل “ترجمة الإدراك فنياً، أي تدمير المحيط نفسه لصالح ولادته الجديدة على سطوح التصوير”، وهو وعي يضمن تحرر منجزه المتحقق من خلال تشفير وتحوير أشكال المرئيات، فهو بالمقابل يؤسس نظاما تحكمه قوانين اللوحة أكثر مما تحكمه قوانين الواقع، فلم يكن يكترث لأية مركزية شكلية؛ فهو لا يحاول ان يقنن تدفق الأشكال الذي ينهي أية فاعلية للقوانين الاقليدية للمكان، ورغم ان صدر الدين أمين كان ينشئ نصا دونما مركز إلا انه حينما يترك كائناته تسيح على سطح اللوحة دونما ضوابط كان يدرّع أشكالها (البسيطة) فكانت تحاول عزل نفسها شكليا لتتخذ شكل (خلايا) مغلفة بجدار سميك أسود مغلق يعزلها عن العالم الخارجي المليء بالكائنات الأخرى التي ربما كانت تتصف بالعدائية، وبقدرتها على التهام بعضها بعضاً دون وجود ذلك الجدار، ربما هو إجراء دفاعي من الرسام ذاته بهدف تحصين أشكاله وعزلها قيميا من خلال عزلها شكليا عن المحيط، خوف ضياعها في هذا الخضم الهائل من الأشكال السابحة على سطح اللوحة كما تسبح الحجيرات في سائل موضوع تحت المعاينة المجهرية، انه حقل مترامي الأطراف من أشكال مشخصة تؤكد نزوعها والأدق تؤكد نزوع الشكل نحو أزله العلاماتي، الأشد بساطة من الناحية الشكلية والذي يختزلها إلى نظام بعدي هو بشكل ما نظام أقل من بعدين، نظام يتجاوز الخط (كبعد واحد) ولكنه لا يصل إلي حالة التشكل فهو محاولة للعودة إلي الوجود الجيني للشكل أو (الوجود الحجيري) لشكل الكائنات فلا يعدو ان يكون شكل الطير هنا أكثر من شكل يشبه حرف (ي)، ولا تكون الشمس إلا دائرة يخرج منها الضوء بشكل خطوط قصيرة تستقر على محيطها وهكذا.
إن الانقطاع الواقع بين أشكال الرسام صدر الدين يجعلها تقصر فن الرسم على انطباعات بصرية مفردة، تحقق وحدة واندماجا يستحيل أن يحققها الأدب القادر على تحقيق تتابعات حكائية وبذلك ينتهي البعد الاستطرادي والبنية الخطية، فلا وجود لذلك النظام الأرسطوطاليسي في التتابع عند بناء اللوحة في هذه التجربة إنها بنية متشظية لا مركز لها حيث تتناثر الأشكال فيها لتملأ سطح الفراغ، ملونة ومحاطة بخط (حقيقي) سميك أسود، وكأننا أمام نص تعويذة تعود إلي أبجدية صورية غائرة في القدم، أمام نصوص لا يمكن فك معانيها لافتقارنا إلى معرفة قواعد أبجديتها، أو أمام صور رسمها عقل طفولي لم تلوثه الحضارة باكتشافاتها ومعارفها، فلم يزل يرسم بأسلوب (عين الطائر) حيث تظهر كل الموجودات معاً دون أن يحجب أي منها الآخر، وخلال منظور ذي بعدين تتخذ فيه الأشكال ما يرغبه الرسام او ما يفكر فيه لا ما يراه وهو الجوهر الذي بدأ به الرسم تاريخه وانتهى إليه.
تتواشج بنيتا اللون (=المادة)، والأشكال المنعزلة، والتقنيات المادية، في جوهر اللوحة التي يرسمها صدر الدين أمين، فرغم اتخاذ كل شكل وحدة قائمة بذاتها، إلا أن تواشجاً قد نشأ بينها وبين (السائل) الذي تسبح فيه وهو ما يمنحها وحدة شكلية نصية صورية دوّنها آلافٌ من البشر الذين مرّوا أمام كهف الرسام فسجلوا علاماتهم؛ وبذلك كانت أعمال الرسام مقاطع من جدران عشرات الكهوف الملونة بألوان زاهية ذات روح طفولية تلقي بظلالها على منجزه من الناحية التقنية أيضا.
يمتلك الفنان صدر الدين وعياً شكليا يمتلكه القليلون، وعيا جوهريا في تأسيس فهم فن الرسم على بنية (مكانية ــ صورية) أي طوبولوجية، وعيا بصريا جمع في ثنايا ذاكرته ذخيرة ضخمة من أشكال (عناصر) المحيط القابلة للاستيعاب، وتكوين الصورة وفق عملية انتقائية داخلية تخضع لعملية تحولية من الأسلبة الملازمة لكل حركات الفن باتجاه تكريس وجود الموضوعة الدالة التي تنطوي على الجوهر الشكلي الكامن في قلب الرؤية حيث ظل ذلك الجوهر كامنا رغم كل التحولات التي تبدو وكأنها ستنال من وجوده.
ان بساطة العناصر البنائية (العناصر الشيئية) للوحة صدر الدين أمين: الشكل والمادة والتقنية تذوب في (نسق قيمي)، هذه العناصر الثلاثة من خلال تواشجها مع بعضها دونما انفكاك، ودونما قواعد مفروضة خارج هذه البساطات الشيئية، تشكّل الطابع الأهم الذي يسم تجربة هذا الرسام بأنه رسام بدائي او فطري او برأينا فنان (خارج النسق الثقافي) لفن الرسم (the outsider art).

الأحد، 6 سبتمبر 2009

الرسام العراقي محمد مهر الدين ...





فوضى السطح..
وصرامة الهندسة الغائرة

خالد خضير ألصالحي

1
"إن أسلوب إعطاء الشكل ينوب نهائيا عن تقديم ما كان يسمى تقليديا بالمضمون، فهو يريد جعل العمق جزءا لا يتجزأ من السطح"
مطاع صفدي

2
"عدد ليس قليلا كتبوا عن تجربتي الفنية، خلال مسيرتي، إلا أن البعض أصاب في تقريب وتثمين تجربتي باعتباري (فنانا تجريبيا) ، فان أحالة الفنون البصرية إلى مفردات كتابية ... فيه الكثير من الصعوبات" محمد مهر الدين، رسالة عبر البريد الالكتروني (نيسان 2008)

3
الرسم التجريدي العراقي وعلاقته بالمشخص
حينما صنفنا الرسم التجريدي العراقي ذات مرة حسب علاقته بالمشخص باعتباره، برأينا، من أهم قوانين النسق التجريدي العراقي الذي حاولنا البحث فيه يوما ما وقسمنا فيه الرسم التجريدي العراقي إلى: رسم نبع من المشخص وظل وفيا له، ورسم نبع من اللامشخص، وظل كذلك وفيا لمصدره اللامشخص، فبينما يعتقد الكثير من النقاد العراقيين إن محمد مهر الدين قد انتقل من تقديس المشخص إلى ما يناقض ذلك، حيث قضى سنوات السبعينات وهو يرسم الإنسان في (مقتبس من كتاب محمد مهر الدين عظيم) فإذا به ينقلب على عقبيه، ورغم ذلك فان المظاهر خداعة غالبا، وان تجربة مهر الدين لم تنقطع عن المشخص، بل خضع لدرجات مضاعفة من والاسلبة التي أجهزت على (الوجود الشكلي) للمشخص، إلا أنها لم تقض على آثاره التي ظلت عالقة على سطح اللوحة، فمازالت موجودات ذلك الإنسان تتمظهر: أرقاما، وحروفا، وشخبطات تملا الجدران، وهندسة، وكتابات، وثقوبا مقصودة، فلم يكن مهر الدين رساما منقطعا عن تجربته الماضية، فمازالت (موضوعاته) هي ذاتها وان تلبست نمطا يبدو مناقضا لخطه السابق، وان كذلك تغيرت عناوين لوحاته لتنسجم وعناوين اللوحات التجريدية: موضوع، تجريد....، إلا أن الوجود الإنساني مازال فاعلا في سنواته الماضية وان اتخذ تمظهرات أخرى ذات طابع أكثر شيئية.

4
الهندسة السطحية
يؤسس مهر الدين هندسة لوحاته بمستويين: مستوى هندسة سطحية من خلال التقسيم التربيعي او الثنائي الأفقي او ألمعراجي لسطح اللوحة، ومستوى غائر يسميه طهمازي (البناء الكثيف)، فحينما أطلعني الرسام مهر الدين على آخر أعماله كان ضمنها مخططات أولية لبعض تلك اللوحات كان قد أنجزها بالحبر وهي مليئة بالملاحظات المكتوبة، والمخططات والبقع التي ستمتلئ باللون لاحقا، وكانت تلك المخططات تبدو على درجة من الصرامة بشكل يذكّر بالدوائر الالكترونية التي لا تقبل الخطأ، وكان اشد ما أثار استغرابي إن كما كبيرا من الشخبطات التي اعتقد الكثيرون انه كان يضعها ليكسر بها رتابة البناء المحكم، هي موجودة ضمن هذه المخططات، وبذلك يكون مهر الدين صارما حتى في عفويته.
يبني مهر الدين لوحته في مستواها السطحي من: أولا، مستوى سطحي تصويري لوني غائر مليء بالانقطاعات، تلك التي كان ينجزها آل سعيد في جسد اللوحة المليء بالخروم والثقوب والثلمات، وقد بدء مهر الدين بانجازه من خلال اللون انقطاعا بالمساحات اللونية؛ الأمر الذي خلق خروقا يستوجب ملؤها، وهنا لا يترك مهر الدين متلقيه حائرا في إمكانية ملء هذه الخروم بل يلقي لذلك المتلقي بمجموعة من المفاتيح يبثها في فراغ اللوحة وعلى المتلقي أن يلتقط دليله منها، وثانيا، من مستوى اشاري سطحي يشكله حشد من العلامات التي بعضها مقروء، وبعضها غير مقروء، وغير المقروء هنا (مضمر) الدلالة كاشارة الالغاء او الرفض (x) وهي اشارة كرسها مهر الدين منذ مرحلته المشخصة في السبعينات، أما الإشارات المقروءة فقد ظهرت من: عبارات مقروءة وذات معنى إلى حروف مقروءة عربية ولاتينية ولكنها لا تشكل نصا ذا دلالة لغوية، ومن إشارات كاليغرافية صورية مستلة من نمط من الكتابة البكتوغرافية، ولكن رغم أن اختيار مهر الدين لتلك العلامات كان اختيارا واعيا في أحيان كثيرة إلا انه يدخلها مختبره الشكلي لتتحول العلامة بعدها إلى اشارة شكلية تنتمي إلى شيئية اللوحة، وعناصرها الشكلية وليس إلى نص لغوي مدون فابل للقراءة كما هي حال أعمال الخط العربي المقروء، رغم انه يهدف من كلا نمطي العلامات نقل إحساسا بالرفض وفوضى الواقع للمتلقي بشتى هذه الوسائل (البصرية).

5
الهندسة العميقة (البناء الكثيف)
لقد انتبه الكاتب عبد الرحمن طهمازي إلى مستوى غائر يسميه (البناء الكثيف) في لوحات مهر الدين حينما يقول "مازال مهر الدين يبني العمل على مراحل لكي يصل إلى السطح" وهو ما يسميه (كثافة البناء الدفين)، كما يقيم هندسة لوحاته وفق مخططات أولية دقيقة تماثل وتوحي أيضا بخرائط الدوائر الكهربائية والالكترونية، فهو يقسم (جسد) اللوحة غالبا ، وخاصة لوحاته التي اتخذت شكلا دائريا، وكانت أعدادها كبيرة في معرضه الأخير، تقسيما تربيعيا يتطابق بطريقة شكلية مع العنزات الدائرة حول نبع في فخاريات سامراء، او ما يسميه شاكر حسن آل سعيد (النظام التربيعي) الذي ظهر في حدود الألف الخامس قبل الميلاد وشكّل "الأساس الذهني لنظام الوفق" ، والذي سبق ظهوره الكتابة المسمارية وشكل مقدمة لتلك الكتابة، وربما شكل كذلك جذرا لا واعيا لان يكون التقسيم التربيعي تبشيرا لشكل جديد من اللغة او من الكتابة التي تبشر بشكل الكتابة في العصر القادم لتتحول من رقائق (punch card) إلى اضوية وأرقام وحروف على شاشة أجهزة الحاسوب.

6
ازدحام النموذج
عند مقارنة إعمال مهر الدين التي كان يلصّق بها مختلف المواد ليجعل سطح اللوحة ناتئا بطريقة استثنائية ومبالغ بها، مع أعماله التي أنجزها لتعرض في معرضه الأخير هذا، سوف لن نجد إلا فروقات طفيفة في الدرجة أهمها: كبح المبالغة في الملصّقات، وهيمنة اللون حيث "لا يقوى مهر الدين على كبح جماح قدرته على التلوين" كما يقول طهمازي، رغم إن ذلك التلوين عاد أحاديا، كما كان أيام السبعينات، إلا انه ما زال عنصرا فاعلا في الواقعة الشيئية للوحة، وأخيرا انتفاء الرغبة بالتشخيص مع الشكل البشري رغم بقاء مشخصات أخرى تشكل أثرا له ومنها الحروف ومختلف العلامات الأخرى.
إن ما يسميه عبد الرحمن طهمازي (ازدحام النموذج) في لوحة مهر الدين الذي هو "كثرة النماذج التي تكتظ بها كل لوحة تقريبا مما يوحي بكثرة الرموز في لوحة واحدة، أي مما قد يوحي بان اللوحة الواحدة محملة بأكثر مما تحتمل وبأكثر مما يجب"، هو راجع إلى أن تكنيك الملصّقات والورقيات والمواد المختلفة يحتمل قدرا اكبر من التنوع والتعقيد في بناء اللوحة، وهو ما أشار إليه كذلك طهمازي، كما أن الدلالة الأهم في ذلك إن المواد المختلفة قد أتاحت لمهر الدين انجاز فهمه للفن الحديث باعتباره عملية تجريبية دائمة، وان موت التجربة الفنية بتوقفها عن هذه التجريبية، وهو من خلال هذه التجريبية كان ينقل قدرا من الإحساس بالتحولات المتلاحقة للواقع، وفوضى ذلك الواقع الذي يشكل ثيمته الأساس التي اشتغل عليها طوال منجزه الفني، وكان ينقله من خلال المزاوجة بين المشخصات والتجريد، بينما اتكأ الآن كلية على الأثر التجريدي للإنسان؛ وبذلك استوطنت الفوضى سطح اللوحة في بنيتها السطحية؛ بينما كانت مرتكزة في حقيقتها على بناء صارم في بنيها الغائرة وربما الخفية.

In an Interview with the Painter Sadr-al Din Amin








I Try to Paint with Pictographic Writing
A Mixture of Painting and Writing

The degree of mania displayed by the painter Sadr-al Din Amin concerning the surrounding and environment , their beings and creatures which he takes as a visual means to reveal the aesthetic data hidden within the surrounding entity is his favorite subject , and maybe the only one. Whereas the findings of that surrounding constitute the painter’s gate to enter that subject. It is a gate with a sap retroactive direction that begins with the identity of the artist towards the findings of the surrounding then returns to him. This confirms considering his experience one of the Iraqi expressionist – abstractionist experiences that take their inspiration from the surrounding , and try to stamp their contents of the surrounding findings with the formal convictions in which the painter Sadr-al Din Amin believes and on which he establishes his formal system. At the time when huge numbers of Iraqi artists believed that the subject of their work was the fossils of ancient walls , Sadr-al Din Amin didn’t want to follow the traces of those painters or any others. He resorted to head inward when he began filling his plate surface with contents of his memory , such as creatures he lived with for a long time ; those creatures have amalgamated with his awareness of the form and became part of it in its interweaving with nature. His plate appears to us as if containing a mixture of masses of humans , some of them wearing masks , others having horns just like the ancients who used to paint the magicians in the form of shamans or fairy animals , their shapes being mixed with countless variety of masses of: fish , cats , snakes , turtles , birds , moons , stars , suns , plants , reptiles , trees and roses gathered in carnivals in which all these masses participate. These tales and legends represented a principal source in forming the cultural structure derived from the popular mythology of the mountain forests areas in Iraq which Sadr-al Din Amin reshaped them through an art of high techniques and structural formation.
Q. You have been classified as “an artist of the surrounding” or a realistic artist of special pattern , or more precisely an expressionist- abstractionist artist , what’s your opinion about that? And do you agree that the task of art is to collect the findings of surrounding then making the abstraction , reduction and formal modification processes on them?
R. I prefer the personification painting because there is a human , spiritual and psychological dimension in that , and I want my plate to be filled with life , I don’t want it to be freeze or solid or incomprehensible plate in the eyes of the others. I also want it to be effective and does not strike the viewer , but it should enjoy him. The most sublime of the aims in art is , in my opinion , to enjoy the others , thus I choose my vocabularies with utmost care , and even when I repeat them , I try to do that in a different way in each new work.
I don’t want to be classified within a certain frame , as an expressionist or abstractionist or primitive because I consider that a constraint that restricts the artist’s movement , and because I am an abstractionist artist , and in each phase I have my own experiences which are different , so my teacher in the colour lessons , the late Muhammed Sabri has classified me , when I was a student in the Academy of Fine Arts in Baghdad , as “bestial” painter , in other words belonging to the bestial school , and he was right in that , because I was at that time affected by the style of Henri Matisse , and I consider that my teacher Muhammed Sabri has early discovered me.
I try nowadays to combine all styles together , in spite of the difficulty of doing such an adventure ; I consider the good artist a good adventurer , and a discoverer of treasures , secrets and ambiguity in life. It is not important to succeed or fail , but it is important to try , didn’t Andre Briton say that ‘the idea of success and failure is under my feet”?
The task of the artist is in my opinion , not just to collect the findings from the surrounding ; then making the reduction , abstraction and modification , but his task is to enrich the spiritual side of man , and to intensify the meaning of life , to activate the pulses of the heart. The artist is a creator of magic , the voice of the soul that expresses the primitive intuitional feelings , a spontaneous motive of the unconscious , a scout of unfamiliar beauty , a searcher for primitive purity that man has lost now. Painting is a creation like nature , because the artist is a man who adds a form to an existing form , and if this kind of form is only a form without soul , then it’s a dead form. Art is not just a thing that we find in museums and art galleries , it is the search for the essence of truth , and it is also an explanation of nature. Art is a question with no answer , and it is the task of the artist to search for the answer.
Q. Why have you considered the other creatures as your relation with the surrounding , and you haven’t used the walls , letters and signals as in the case of the current wave of artists of your generation?
R. We are all living creatures possessing a life and existence based on conscious and unconscious feelings , I am connected with the symbolic imagination of those creatures: whether they are realistic or legendary , I search for the pure form , in other words I am trying to preserve the language of visual and internal dialogue in the work of art to convey the essence of artistic reaction. I don’t want any kind of supervision on my works , I want them to penetrate the depths of creative legendary time. Legends are the source of constant power in all forms of thinking and art , knowing these creatures totally gives me an internal lust , from all that springs later on their symbolic dimension as a special pattern of continuous internal explosions inside the artist.
I have found my work fond of , haunted , enchanted with the magic of creatures and their astonishing presence in my works , there is a strange felling that drives me to draw these creatures , I have been born within an oriental environment in which the animal element had a dominating presence as a body , movement , tales , legends , symbols , superstitions and religious rituals. The environment in which I lived was , and still remains , primitive , wild and innocent environment. There were , and still remaining , many analogous descriptions and metaphors concerning the animal since Gilgamesh to our present day.
The creatures sometimes appear in my paintings like a body , and sometimes like metaphors ; that’s because I am fond of meditating creatures: animals , birds , fish and insects. My creatures are not tamed , they are irrational , and sometimes I don’t want them to rotten , I want them to be closer to childhood and it’s innocence , I want them to be astray , wild and far from epistemological structure. The way in which I see them , they appear beautiful and effective , the existence of creatures sharpens the imagination , and they bestow on us new senses. Once a Japanese artist was asked why doesn’t he paint animals , he replied “because animals don’t betray”.
My creatures are spiritual imaginations , they represent a constant source of astonishment , and a return to the spirit of earth , they are ceremonial creatures , carnival , dreamlike shapes , they are magical totems , glaring with ceremonial light and affection , my creatures signify a total civilization , a purification of man’s soul from evil latent in the selves of human kind that is thirsty to destroy the man’s kingdom of dream and calmness. I call for the original calmness , the womb where there is no end to sensuality and enjoyment , where the essence of thing is to be found.

Q. Why do you wrap your creatures with thick walls , is it a fear from the outside and a regression to the inside?
R. This is an important question , and an American critic , who acquired two of my plates at that time , has asked me the same question too. There is a famous sentence for the American writer in which he says “the animal creatures live outside , and we human beings live inside”. Yes , I think it’s a kind of inward regression , that’s one side of the issue , the other is that I look to the matter as an internal reflection of the sensual facts. I want also , through this hard wrapping of my vocabularies to draw the attention of my audience to the shape of the creature in an extraordinary way , and to emphasize on my vocabularies ; because each creature has it’s own language , it’s own vision , it’s own philosophy that differs from the rest of the vocabulary in the same plate. By this way I want to preserve the independence of the creature or the vocabulary , considering that it is an active element having it’s own entity. I wish to clarify my own vision to the world explicitly. The writer John Kinsey says , “art should be clear like the flame”.
Through my observations and meditations of many paintings on walls , caves , and ancient carvings on stones , and also the archeological findings , I found that most of the paintings were representing a hard external determination of the form without any details inside the general shape. It was scarcely that the forms interfere with each others. Thus I find myself like that primitive hunter when he paints on walls of caves with high intuition the shape of the creature using hard , powerful , elegant , deep and touching lines , in order to teach us afterwards with his primitive instincts the first lesson in painting. I feel indebted to that primitive hunter who is in fact me.

Q. Your forms began to move towards simplicity , do you expect that you move totally to a pure semiotic calligraphical language or to the beginnings of Cuneiform writing?
R. This is one of the most difficult questions that might face the painter , and I usually ask myself this question after putting the finishing touches on the plate. When I begin painting , I paint with excitement , impulsion , desire and enjoyment , then when the plate is finished , an unfamiliar feeling of joy , happiness and childish overwhelming gaiety haunts me. But unfortunately that joy doesn’t last long , after a while I find myself felling sad , worried and bewildered , and I ask myself how would be the shape of my next plate? Those moments are the worst for the artist , all that I know is that I paint and don’t know where to my creatures leading me , where are they taking me , and should I abandon them someday , and when should I stop? There is an unknown fate waiting for my creatures ; but I will continue painting as long as there are: humans , creatures , birds , fish , legends , tales , dreams and so on ... So I paint with wounded desire , painting needs oblation and sacrifices , the artist himself may turn someday to an oblation like what happened to Van Gogh , Mark Rothko , and De Stale. After all that, I don’t know whether I’ll resort to another language. I think that I may , when I exhaust all my oxygen , abandon my creatures and take another state , maybe I return to the pre- calligraphy period , calligraphy has lost its first glare because of misunderstanding of its real secrets and working on its surface in a deforming way incomprehensible to many artists as a spiritual and creative value.
I am now experimenting , searching , studying and penetrating in the field of pictography , it is an old representational writing that mixes between painting and writing , it is in a way like the hieroglyphic sketches and representational writing in China and Japan , it also resembles the real entrance to the art of painting and writing simultaneously. I consider it the encyclopedia of representation , which contain all the expressional vocabularies in the universe: primitive animals and plants forms that are proliferating in a dreamlike world without beginning or end.
That’s what I try to do ; and I feel that I am moving in this direction searching for a simple and real happiness , which is an existentialist search for the soul of innocence in all its details , that’s what my imagination contains now.
Q. What are the conditions of the Iraqi artists in America? And what are the effects of emigration on your artistic achievement?
R. I would like to refer first that there is in America very restricted number of Iraqi artists , because most Iraqi artists , since the sixties, have gone to study painting in Italy and France specifically, and the first artists who have left Iraq to study painting in America through official scholarship in the late seventies were: Waleed Sheet and Sahib Ahmed , and these two artists returned to Iraq , in addition to the artists Hashim Al- Taweel , Muhammed Taban and Sadi Abbas Al- Babili , those three are living presently in America. In the nineties another group of artists emigrated to America and most of them are specifically students of the Academy of Fine Arts, but those are very few indeed. Unfortunately , till now , the Iraqi artist hasn’t presented in America something significant , and Iraqi art doesn’t exist there in its wide meaning , it is almost impossible that three artists meet together in one place. There are many reasons for that , for example there are in America thousands of artists , thousands of foreign artists , and most of the galleries are booked for at least two years , some of them for fife years. On the other hand there is the difficulty of living , the artist has to find a specific work for himself before anything else , and this work exhausts all his energy , then he has to acquire the language very well. Life in America is alluring , fast and expensive , it makes you forget everything. The rhythm of life moves in astonishing speed ; days and years pass like lightning , that’s why many people feel lost and loneliness. So the artist who cannot withstand in the face of all this suffering will eventually and unfortunately be lost and expired , but the artist who holds inside him the seed of art and its love , when he is true and honest with himself , will undoubtedly succeed because America is the country of golden chances , and New York city is now the centre of attraction to artists ; the artist finds all what he dreams of in this city. There is a proverb in America which says: Man can live in any quarter of New York forever without need to anything else , or he may leave anywhere.
In a very touching letter , the poet and critic Farouk Yousif wrote to me saying that the good artist must face bravely any possible danger if he wants to be a good artist. These words are very realistic and important , because the word “artist” is a great word , and art needs great sacrifices.
Yes , immigration is hard , but the true artist was , and still is , a strange creature in all ages , and immigration is very effective , its effects are numerous. I personally didn’t feel till now the momentum of immigration because I became free. Freedom is the most beautiful thing in life , and freedom makes you forget the feeling of immigration. Hemingway says , “Whenever freedom is small , man would be small”. Thus I came to the new world to get rid of slavery , to be a free creative artist. Here I found myself: thinking well , painting well , reading whatever I want , visiting art galleries and important museums , observing the works of great artists closely , making my own exhibitions and participating in other exhibitions.
When I reached America , I was carrying thirty dollars in my pocket in addition to some of my plates and many dreams. After six months , I made my first personal exhibition in America , and half of my works were sold on the eve of opening the exhibition. After a year of my residence there , I participated in an exhibition and was granted the first prize , and after two years I participated in an exhibition consisting of two hundreds and twenty artists and got the evaluative prize , my plates appeared on covers of newspapers and the American Fox 43 cannel broadcasted a report about me. Just part of this wouldn’t have happened to me if I were in my country and among my own people , all this happened to me while I was in a strange country that became now my own country.

هاشم حنون ومدن الذاكرة











هاشم حنون: مدن الحروب التي استوطنت الذاكرة
حينما كتب النقاد عن تجربة كاندينسكي التجريدية الاولى ، وكانت مجموعة صغيرة من اللوحات (التجريدية)، كان هؤلاء يشخصون فيها اشكالا ومشخصات وانماطا من بنى حكائية وفرسانا ومعارك وجبالا واقواس قزح وقمما جبلية تكسوها الثلوج!! ، فارتد الكثيرون ورأوا ان كاندينسكي لم يكن رساما تجريديا الا من الوهلة الاولى او وجهة نظر السطحية فقط، وذلك ما ينطبق، تمام الانطباق على الرسام العراقي المقيم في عمان هاشم حنون.
سأستعرض اولا خلاصة صغيرة لنسغ تحولاته الاسلوبية الماضية على عجل لأصل الى اخر مراحله التي قدمها في معرض (مسلات الطين 2004) ، فقد تطورت أشكاله وكشوفاته ، وفهمه للرسم ومهماته ، خلال سنوات طوال قضاها محترفا الرسم في البصرة ، وقد كنت قريبا منه طوال تلك السنوات وسنواته اللاحقة في عمان بحكم اقامتي فيها قرابة الخمسة اعوام، كانت متابعتي له فيها دائمة ، فتوفرت لي فيها اكتشافات لمناطق اعتقدها خبيئة و سرية في منجزه الإبداعي، كشوفات قد تكون مرت دون أن يلحظها الآخرون ، مضيفا لها ما اتلمسه بزيارتي الدائمة لموقعه على شبكة الانترنت وخلال زياراتي الأخيرة التي اقوم بها الى مشغله في عمان (جبل لويبدة) حيث يقيم قرب المتحف الوطني للفن في الاردن، وكأنه بهذه المجاورة للمتحف يستمد نسغا روحيا من ذلك المكان.
ان الاستراتيج العام الذي اتبعناه في تتبع منجز احد الفنانين طوال حقبة واسعة هو البحث عن تحولات ما يسميه جورج كوبلر (المتتابعات الشكلية)، حيث سنحاول “تتبع النسغ التحولي الذي سلكته مسيرة المتوالدات الأسلوبية المستمرة من مرحلة إلى أخرى للفنان ، بتتابعها التاريخي ، بعد أن صارت تاريخا، وامتلكت بذلك استقرارها ووضوحها الرؤيوي والدلالي وإمكانية تسجيلها كتاريخ و إعادة وضعها في مكانها المناسب من المعاينة النقدية مجددا، بطريقة قد تعمق مقتربنا منها اكثر”.
فبعد ان قضى هاشم حنون زمنا، في بداياته، مقتنعا بطروحات عدد من النقاد، خلال حرب الثمان سنوات، الذين كرسوا الرسم التعبيري باعتباره الخيار النهائي للرسم العراقي، اتجه بكليته الى (الرسم التجريدي) ومحاولة تطوير رؤية ادت في النهاية، حسب وجهة نظري التي دونتها في عدد من مقالاتي عنه، الى ترسيخ ما اسميته وقتها (المتجهات الاسطورية) وفيها كان الرسام هاشم حنون يوزع أشكال لوحاته ومراكز الثقل فيها اعتمادا على بعض من الأنظمة الخفية التي أسميتها (البنية الهيكلية المتجهة) والتي تم تأسيسها على فهم يقسم السطح التصويري للوحة الى منطقتين طوبوغرافيتين تبعا لدرجة قداستهما، مما انتج بنيتين هيكليتين متجهتين هما: البنية الهيكلية الأفقية التي تجسدت: بمواكب تشكلها دائما كتلة أشخاص تتجه وجهة عرضية أفقية من اليمين الى اليسار دائما، وقد نجد جذورها في الفن العراقي الرافديني القديم ضمن مشاهد التقديم الكلاسيكية في الأختام الأسطوانية، وبنماذج احدث تصور موكب تشييع الشهيد لمحمود صبري، وفائق حسن، وفيصل لعيبي وهاشم حنون ذاته بلوحة الشهيد التي كانت من مقتنيات مركز الفنون في بغداد وغيرهم، وبنية عمودية (ارتفاعية) يمكن ان يجسد الشكل الناتج فيها نحتيا بالساعة الرملية ، حيث تترسب الارضيات وبقايا الجسد (التراب) ليتسامى الهواء (الروح) المقدس الى الجزء العلوي (السماء) . وتتجه فيها موجودات اللوحة الأكثر قداسة من الأسفل الى الأعلى رامزة الى صعود الروح وتساميها نحو خلود العالم الآخر (السماء).
لقد زامنت نهايات تلك المرحلة الثرية ، بذور تطور هام آخر كان يجر منجز الفنان نحو (التجريد) حيث تماهى شكل الكائن الذي كان يرتفع الى السماء قي لوحاته التعبيرية مع شكل المسلة الواضح ذي الكتابة المسمارية في تخطيطاته ولوحاته التعبيرية أواخر السبعينات ثم الى شكل يوحي بشاهدة القبر أوالقبة أوالمحراب أوالأهرام، وكلها وسائل للخلود او للوصول الى السماء مما شكل انتقالة باتجاه تراجع الموضوع الأدبي (النثري) بدرجة محسوسة وترسيخ تحول البطل شيئا فشيأ الى كائن رمزي دون ملامح شخصية محددة سوى ما يوحي به من ملامح وتركيبة ناتجة عن مزج أهم عنصرين من عناصر التكوين هما: التراب والماء ، حيث كان كائنه يتخذ شكل شواهد القبور والحجارة القريبة من الشكل الإنساني الذي لا يبتعد عن قدسية الحجارة ، فكانت النتيجة تجريدا لمزاوجة ميثولوجية سبق له ان اشتغل عليها في مرحلته التعبيرية التي مازجت بين جذرين ميثولوجيين هما الصخرة والمسيح اثناء الصلب (الصخرة كانت المسيح ـ الإصحاح العاشر العدد الرابع)، فتمت إعادة عكسية لتحولات الشاهدة ، التي هي ناتج عنصري الماء ( وخلقنا من الماء كل شيء حي ـ الآية) و التراب (كلكم لآدم وآدم من تراب ـ الآية) فتتألف الشاهدة من عنصري (الماء + التراب) ، ليتشكل منهما الطين الذي تتلبسه الروح وتقرضه الشمس كائنا يشبه الشاهدة ، أصابها الجفاف ، فانفصلت عناصره من جديد بعملية (ميثو ـ كيماوية) ، ليتخلف عنها: كائن حجر، يحتل قاع اللوحة ، ويرتفع الماء غيمة تسبح في الأعالي .
لقد اسس هاشم حنون التشاكل الصوري في معرض (مدن ملونة)، وهو أهم معارضه التي أقامها في عمان عام 2002 ، من علامات المدن واكتظاظها بموجوداتها وساكنيها: حشود من شخوص وأجزاء شخوص، وجوه، أطراف، بيوت، أجزاء بيوت، شبابيك، منائر وقباب جوامع مزججة وأئمة، أسواق، بضائع، جسور، إشارات، جدران، أرصفة، ذهب ونفايات، حيوانات سائبة، شواهد قبور، نخيل، طرق، تمائم، دوائر وأشكالا هندسية، عربات باعة، بقع، ضوء واقواس قزح، وسيل عارم من الرموز والأشياء والشفرات والمتاهات ،فاللوحة تبنى بشكل مسرب لوني يشقها طوليا يملؤه مثار من ألوان واشارات وشخوص ،وما عنّ للذاكرة ان تلقي بمحتوياتها ، حشد مكتظ تكتسحه قوة إعصارية ترفعه من قاع اللوحة الى الأعالي وعابري سبيلها دون ما اعتبار لمنطقية (الزمكان)، انه يعيد بنائها من فتات قرميدها ، وآثار جدرانها ، طبقة فوق أخرى ، بثراء لوني مدهش ، واكتظاظ شكلي بكل ما جمعته الذاكرة ، ليس من (علامات المدينة) وحدها بل ومخزونات مما رسمه الآخرون عنها ، منذ بواكير الفن العراقي المعاصر وحتى وقتنا الحاضر ، فكل لوحة من المعرض لا تحيلنا فقط لكمّ هائل من موجودات المدن ، معماريتها ، ناسها ، أطفالها ، عربات الباعة …. بل وتحيلنا الى كم هائل أيضا من فن العراق القديم و الرسوم العراقية المعاصرة التي اتخذ فيها فنانوها المدينة مرجعية ايقونية لهم ، و”حيثما يكمن سر المدينة: في كل ذرة تراب تطير اثر أية حركة داخل المحيط، فمسالك المدينة قد تكون مطبوعة على سحنة وجوه ساكنيها ، فمثلما البشر يتبادلون الأثر مع المنطقة التي يسكنون تكون وجوههم جغرافية محيطهم … ستكون الفرصة أوفر لساكن شوارع المدينة (المتجول الدائم) في اختبار روح المدينة، ففي الطرقات وعلى الأرصفة (مسارح عيوننا) لحظات زمن العابرين مخزونة في أثرهم المكاني، وفي الشارع (الطريق ـ الرصيف) الكل عابر ، لحظات فرار مستمرة كما الحاضر ، والوجود هش حيث الجريان السريع المحسوس للزمن ممثل بالأدوات ـ الأشياء ـ البشر انه مغزى الحياة المتقارظ مع سكون البيت وحدوده (القبر)” كما ذكرت ببلاغة هناء مال الله، بينما جاء معرضه (مسلات الطين) ، ليودع تجربة (المدن الملونة)، وكان بفعل تغييرجذري: في فهمه لدور السطح التصويري ، ليس باتجاه التجريد فقط ، بل باتجاه محاولة تحقيق اكبر اقتراب من المادة التي يشتغل عليها ، وعبر معالجة تقنية لأحافير اقتطعها من نسيج حائط ، ومن قطعة جنفاص عتيقة متهرئة (عندما يلصق خرقا من الجنفاص المتهرئ على سطح اللوحة) ، وربما من أي سطح صدأ ترك الزمن بصمة مكوثه الطويل عليه ، او مقطع عرضي اخضع لمعاينة مجهرية ، والأهم من كل ذلك ، حدوث تحول مهم في فهمه للوحة ، منذ سنوات قليلة ، باعتبارها حقلا (سطحا) مسكونا بالأصباغ والخطوط والأشكال ، يخضع لضروب شتى من تجارب الفنان الشكلية والتقنية ، اكثر من كونها موضوعا حكائيا يلتصق بالمعنى، أي بمعنى آخر ان تمثل اللوحة شيئا، اكثر من ان تكون تشبيها لشيء. نحن نعتقد أن الحيوية الكامنة في هذا المنجز، كرستها محاولة الفنان الواعية باصطفاء صور من متعرجات الواقع المرئي يوميا : آثار و لقى و أحافير وعلامات، تشاكلها صـور مستثارة من ذاكـرة (معرفية) صقلـتها الخبرة ، هي ليست بالضرورة ذاكرة الفنان وخبرته وحده، لكنها بالتأكيد، ذاكرة خزنت نماذج لا حصر لها من (كتابات أولى) مستمدة من مراجع شتى، فان الاعمال التي نتعرض لها الان قد تشكل مرحلة تبدو عرضية في تطوره الفني، بسبب قلتها، الا انها ما زالت تتبع نفس استراتيج هاشم حنون فتؤسس لوحاته السابقة على تطوير واع من مزيج من خلاصات تجاربه السابقة ، وهي هنا معارضه: مدن ملونة وفضاءات ملونة، مع كائناته الحجرية الاولى. ويمكن تلمس الامتلاء الواعي والاحتفاء غير المحدود بموجودات الواقع تلك، في هذه ألاعمال،وان من وراء حجاب، فهاشم حنون لم يعرف التجريد ويمارسه، كما يفعل الكثيرون، فقد كانت ذاكرته الاستثنائية تفرض سطوتها عليه ، فما شاهده ذات مرة في مكان او في ركن مهمل او جدار، سوف يستعيده يوما ما ، إنها (موديلات جاهزة) رهن ذاكرته ، يستل منها ما يشاء ، دون ان يعرف كيف ومتى يحدث ذلك . ورغم حرصه الواعي على إخفاء (مصادره الواقعية) ، إلا ان مصدر الشيء (فكرة الشىء) او بكلمة أدق (بصمة الواقع التي لا تمحى) تكون قد تركت (علامة لا يمكن إزالتها) ، لأنها (الجرثومة الطوبولوجية) التي هيكلَ الفنان بناءَ لوحته عليها بطريقة لاواعية منذ وضع أولى لمساته على سطح اللوحة . فرغم الحرص الواعي للفنان على إخفاء مصادره الواقعية ، فهو لم يتمكن إلا من قمع بعض العناصر الأولى حيث تظهر بضعة اختيارات من جزئيات الشكل ، بينما قمعت تفاصيل محددة من اجل إفساح المجال للمتلقي ان يردم الفجوة باضافة عناصرها المكملة ، إنها ذاكرة تمتد الى الفن العراقي الرافديني القديم الذي تمثله ثقافيا و جينيا، ولكنها تقمع باتجاه ان تتحول نحو اشكال الجذور الاولى التي كرسها حنون مرتكزات لتجربته الاولى.
لقد لفتت نظري خمسة اعمال (مجسمة)، شكلت مجموعة اعمال استثنائية، من وجهة نظري، وقد عرضها في موقعه على الانترنت وفي معرضه الاخير (مسلات الطين 2004)، كما شاهدتها وصديقي هاشم تايه في زيارتنا المشتركة لمشغل هاشم حنون اوائل عام 2005 ، وكانت تنتمي ، في جذرها البعيد، الى كل تلك الاعمال الاولى وجذرها الميثولوجي الاول: الحجارة والقداسة اولا، ثم انتهى ذلك التشاكل مع حرائق المدن التي استوطنت ذاكرته طوال سنوات الحروب التي مرت بها مدينتنا البصرة ومر بها شخصيا ثانيا، فامتلأت اللوحة بطبقات حزن كثيف، وأشباح سوداء من البشر ، وهي ترقب بعضها بعضا، وترنو المشاهد بنظرة صمت كئيب وبذلك لا يختزل هاشم حنون تاريخ المدن التي وطأتها قدمه فقط ، بل وتاريخ الرسم العراقي و (المديني) منه بشكل خاص!.
يختفي الضوء من مدينته الحجرية هذه، فتختفي الشمس .. ويهيمن الظلام الاسود الفاحم بقوة ..فمثلما تكوّن المشهد في (مسلات الطين 2004) من مهيمنتين: الطابع الحجري حيث الطين الجاف او المفخور، والوجود البشري (حيث: المدن، المسلة، الكتابة، التاريخ، المدونات، آثار الناس والعابرين)، فكانت مزيجا من المدن الملونة التي عايشها هاشم حنون في صباه، والمدن الحرائق التي افنى شبابه في حرائقها، والمدن الحجر التي انتهى اليها مقيما في عمان الان.
وكما كانت سيبيلا، عرافة كوماي، “اذا جاءها من يطلب منها حكمتها ونبوءتها، قذفت اليه بحفنة من الاوراق، وقد كتبت على كل ورقة حرفا، وعليه عندئذ ان يجمع بين الحروف ويرتبها بطريقة ما لكي يستخلص منها حكمتها ونبوءتها .. وانشغلت بالمصير فكان عليها ان تحلم بالكمال المصنوع من الشظايا والكسر” (سعيد الغانمي، منطق الكشف الشعري، 1999، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1، ص 107)، انشغل هاشم حنون ببقايا وشظايا المدن وكسرها فكان يلقي لنا نحن المتلقين اوراقه وكسره لنقرأ نبوءته ونفهم حكمته ونعيد تأسيس مدنه المبعثرة، ولم يكن محايدا تجاه مصير مدينتهالحجرية المحترقة تلك بل كان يبكي في داخله احتراقها!.

معرض (1x10) في جاليري الأورفلي في عمـّان


(المتحف الشخصي)..
علامات الذاكرة التي
لا يمكن محوها

في المعرض الذي سمي (1x10) وهو معرض لعشرة فنانين من الأردن والعراق هم : سعدي ألكعبي، محمد مهر الدين، سلمان عباس ،عبد الرءوف شمعون، هاشم حنون، محمد العامري، محمد ألشمري، غسان ابولبن، خالد ثامر وسيروان باران، والمعرض بعنوان (1x10)، وافتتح مؤخرا في جاليري الأورفلي في عمان.
حاول جاليري الاورفلي خرق نسقية عروض العاصمة عمان بطريقة يشرحها القائمون على الجاليري بأنهم أرادوا: أولا "محاولة من جاليري الاورفلي لكسر اعتيادية العروض التشكيلية في عمان، حيث ذهب الجاليري إلى مغامرة جديدة في عرض عمل جداري لكل فنان وهذه المغامرة تشكل تحولا مهما في طبيعة العروض العمانية التي دأبت على عرض الأعمال ذات الأحجام الصغيرة والمتوسطة"، وثانيا، كشف "عن قدرات الفنان المحترف في السيطرة على المساحات الكبيرة وهي دلالة على تمكن الفنان من أدواته في بناء العمل الفني" ، وثالثا، أن "يطرح متعة بصرية من نوع آخر، متعة الملاحة والتجوال في المساحات اللونية وحركة الأشكال فالمعرض يشكل دعوة جديدة للمؤسسات الوطنية للانتباه لمثل هذه الأنشطة التي من الممكن أن تشكل رسالة ثقافية وبصرية في حين تواجدها في مؤسسات عامة"، ورابعا، أن يشكل "تنوعا بما يمتلكه من موضوعات تجريدية وتعبيرية وتشخيصية وطرق مختلفة في معالجة التقنية وتحركها على سطح اللوحة".
إن أهم ما بقي عالقا في ذاكرتي من معرض العشرة فكرة كمون التشكلات الأولى التي اسس عليها الرسام المرتكزات البصرية لبدايات تجربته التي تظل محفورة في ذاكرته لتكون مرتكزه الثابت الذي يشكل بدوره محركات ذائقته الفنية وتمظهرها العياني على سطح اللوحة، فكما كتبت مرة عن هاشم حنون إن أشكال الواقع (وهي ذاتها تشكلات ما يسميه شاكر حسن آل سعيد المتحف الشخصي للرسام) تظل عالقة بتجربة الرسام مهما حاول الإمعان في تجريدها، او ربما اخفائها، كذلك تظل هيمنة الذائقة الفردية (الأولى) للرسام بعناصرها الشكلية التي توصل إليها عبر تجاربه المتواصلة، تظل عالقة وتشكل المعين الثابت في تلك التجربة الفنية للرسام، وهو ما لمسته لدى المشاركين الذين ترسّختْ تجربتهم الأسلوبية، والذين تابعتُ تجاربهم المختلفة على مدى سنوات حينما كنت مقيما في عمان طوال خمس سنوات، إلا أن المساحة الجدارية الواسعة التي اشتغل هؤلاء عليها ألزمتهم بقدر من تحريف التجربة لتتلاءم وخصائص الحجوم الجدارية الكبيرة:
لقد ظل هاشم حنون أمينا لمدينته التي ضمت في ثناياها عناصرها المبعثرة في أرجاء اللوحة والتي يبدو أن الرسام لم يشأ سوى أن ينثر هذه العناصر على مساحة الجدار الواسعة ويترك مهمة جمعها على عاتق المتلقي الذي إن كان لن يجد كل تلك العناصر في واقع المدينة فسوف يجدها في (واقع) مدن أعمال هاشم حنون الملونة أو مدينته التي احترقت بعد ذلك في معارض أخرى؛ فعادت ترابا حيث سيرتها الأولى.
يستل الرسام ذو التجربة الراسخة محمد مهر الدين عناصر متحفه الشخصي من المساحات الواسعة لتنويعات (=تونات) اللون الواحد، ومن العناصر الإشارية التي كان يبثها بسخاء في أرجاء لوحته: حزوزا، ومستحثات سطوح خشنة، وإشارات تمثل العلامات الحسابية كالجمع والضرب التي تدلل لديه إشارة لرفض كل أشكال القهر الإنساني، وتلك العلامة عادت الآن لتزيح الكتابات الرافضة الصريحة لاختلالات الواقع المعيش.
مازالت ثيمة انتظار الغائب التي أسس عليها الرسام سعدي ألكعبي هي الهندسة التي يبني عليها طوبولوجيا لوحته، أما جداريته هنا فليست إلا ذات عناصر متحفه الشخصي حيث يظهر عدد من الشخوص الواقفين في طابور، ربما هو طابور الانتظار الذي سوف لن يأتي، صحيح أن الرسام سعدي ألكعبي كان يحاول أن ينوع على أشكال عناصره ما أمكنه، إلا انه ولسنوات حافظ على ثيمة موضوعه الأساسية والتي كانت ذاتها ثيمة أسس عليها بعض القصاصين العراقيين تجاربهم كالكاتب احمد خلف مثلا، وذلك أيضا ربما يصح على موضوعة الرسام غسان أبو لبن حينما كانت أشكال لوحته، وهي ألوان مجردة، قد بدت وكأنها أشكال شخوص تنتظر غائبا هي الأخرى، كما كانت شخوص الرسام الراحل إسماعيل الشيخلي، بينما تمارس هي ذاتها لعبة الغياب والتخفي خلف بقع الألوان الباذخة التي يكسو بها أبو لبن سطح لوحته، وهذا الثراء اللوني يسم جدارية الرسام عبد الرءوف شمعون التي بدت تنوعاتها اللونية مبالغ فيها قليلا.
كانت عناصر المتحف الشخصي السابقة للرسام مهيمنة في عمل سلمان عباس بعناصره التراثية التي تبدو وكأنها تستمد نسغها ليس فقط من الأطروحات الأولى للفن العراقي في (التعبير عن الروح المحلية) بتقنيات اللوحة المسندية، بل وكان ينوع على عناصر متحفه الشخصي الذي يستمد عناصره الشكلية من البيئة الشعبية كالمثلثات والمربعات وبعض الرموز الدينية، بينما يطلي خالد ثامر مساحات لوحته بسطوح لونية واسعة ترتفع في أعلاها إشارات خفيفة؛ وكأنما يحاول خالد ثامر الوصول إلى درجة من التجريد الخالص من خلال تقليص الأشكال ما أمكن.
رغم أن الرسام محمد ألشمري قد استهوته رقعة الشطرنج وقطعها في الفترة الأخيرة فأنجز فيلما يعرض في احد المواقع الالكترونية تصور لوحة شطرنج تحترق كناية عن الحريق العراقي الشامل الذي لم يفرق بين القطع السوداء والقطع البيضاء، إلا أن ذلك لم يخلّ بالعناصر الشكلية لذائقته التي تعتمد على أشكال الورق المقوى للعلب وما مطبوع عليها من كتابات بالحرف اللاتيني الأسود وما التصق بتلك العلب من صحف ممزقة، فهو لا يتخذ الجدار سطحا يتواشج وإياه في بناء لوحته بل يتخذ سطوح تلك العلب ولكن ليحولها هذه المرة إلى بقايا لعبة شطرنج، ربما لعبة شطرنج لدست خاسر كما هو حال الخراب العراقي الحاضر.
كان الرسام سيروان باران رساما أكاديميا ممتازا حاول استثمار قدرته في الرسم والتلوين الأكاديمي فشكل ظاهرة إلى جانب العديد من الرسامين الأكاديميين إلا انه اتجه نحو التجريد بعد ذلك لينتج أعمالا تعبيرية ذات حس لوني ثري مع بناء اللوحة بناء تلصيقيا حيث تتراكب أشكال شخوصه فوق بعضها لتنتج حشدا يتجه اتجاهات شتى.

الجمعة، 4 سبتمبر 2009

معرض قاعة (مينا كاليري للفنون التشكيلية في البصرة)




إعادة تأسيس الوضع التشكيلي


شارك ثلاثة عشر فنانا تشكيليا في المعرض الذي أقامته قاعة (مينا كاليري) للفنون التشكيلية في البصرة، لمناسبة مرور عام على إنشائها، وهم حسب تسلسل أسمائهم في مطوية المعرض: جاسم الفضل 1955، جبار عبد الرضا، حامد مهدي 1953، عبد العزيز احمد الدهر 1956، عبد الكريم الرمضان 1939، عبد الملك عاشور1949، عدنان عبد سلمان1955، عيسى عبد الله 1952، فاروق حسن 1939، قاسم محسن 1965، محمد راضي عبد الله1937، نوري ناصر1957، هاشم تايه 1948، وكلهم شاركوا بلوحات رسم ذات بنية تقليدية إلا قاسم محسن الذي شارك بلوحتين ريليف بارزة، وهاشم تايه وشارك بمجسمات نحتية مختلطة الاجناسية، ونوري ناصر الذي شارك بمنحوتات خشبية.
جاء في مطوية المعرض وبقلم الرسام عبد العزيز الدهر، المؤسس والمشرف على القاعة، "لا نستثني أحدا مطلقا، فهي مرفأ لكل من يحمل هوية الأصالة، والإبداع الحقيقي، والموهبة الصادقة"، ولا نعتقد انه يقصد بـ(الإبداع الحقيقي) شيئا آخر غير توفر قدر من اشتراطات الحداثة في الأعمال المعروضة، بينما كان دعم شركة دلتا للاتصالات نابعا، حسبما جاء في مطوية المعرض، من محاولة "ترسيخ تقليد جديد تلتزم به الشركات العاملة في القطاع الخاص، يتمثل بتقديمها أي شكل من أشكال الدعم للمشاريع الثقافية، والنشاطات الإبداعية التي من شانها تنمية الذوق العام، واغناء الوعي بما هو عميق من التجارب الإنسانية، وبإمكان تلكم الشركات أن تجد في فضاء الثقافة والإبداع مجالا للإشهار وللإعلان"، بينما كانت أهداف الفنانين المشاركين ليس إلا تقديم آخر ما لديهم من منجز تشكيلي، ولكنهم جميعا احتفظوا من اللوحة بتقليديتها من ناحية الشكل والمادة، فلم نجد أية خروقات في نسقية شكل اللوحة او مادتها، وانصب ثقل هؤلاء الفنانين على الشكل في محاولة تقديم منجز ينتمي إلى الفن الحديث بدرجة ما، إلا ما ندر.
قدم الفنانون المشاركون ما يعتبر اعادة للتواصل الذي انقطع بفعل ظروف البصرة ومنذ الثمانينات وحتى الوقت الحاضر حيث انحسر النشاط التشكيلي الحقيقي ؛ مما يجعل هذا المعرض حلقة تواصل مهمة ليس فقط للمشاركين فيه بل ولترميم الوضع التشكيلي في البصرة؛ فيحاول جبار عبد الرضا، هذا الرسام الذي جرفته الحياة بانشغالاتها، كما جرفت قبله حامد مهدي، يحاول استثمار طاقته الضخمة على التلوين من خلال إعمال غنية باللون سواء تلك التي أنجزها بالزيت او بالاكريليك او بالأحبار الملونة والمواد المختلفة، فقد استمر يؤثث مكان لوحته بإكسسوارات المكان المعيش، كراس وأرائك، وستائر ملونة بثراء وتقنية عالية، فجبار عبد الرضا، لا يتمكن من كبح جماح رغبته بالتلوين مهما كانت المادة التي يستخدمها ليطوعها لمقتضيات قدرته التقنية، وهو ما كان يفعله أيضا حامد مهدي، ذلك الرسام الأكاديمي الذي سرقته الحياة من الفن ولكنه عاد إليه برغبته الكامنة، فقد قدم أعمالا توزعت فيها الأشكال التعبيرية بلقطات مفتوحة تملا فيها المشخصات سطح اللوحة بتوليفات تبدو أسطورية في الوقت ذاته وان كانت تنتمي من ناحية الزمن إلى سنوات خلت.
يقسم قاسم محسن لوحته التي تقف موقفا فريدا من ناحية الاجناسية: بين الرسم والريليف النحتي، فهو يقسم اللوحة إلى أفاريز، كما كان العراقيون يقسمون جدارياتهم الناتئة، وكما قسم العراقيون إناء الوركاء ألنذري، يقسم قاسم محسن لوحته إلى إفريز علوي يضم كتابات من خط الثلث تعقبه أفاريز تضم مشاهد من النحت العراقي قديمه وحديثه، وزخارف، ورسوما طفولية من اسماك، وبقع ملونة، كل تلك العناصر تمت استعارتها من مصادر شتى لتشكل معا (لوحة) قاسم محسن الذي يبني لوحته من معمارين: أولهما غائر ناتئ ينتمي إلى النحت البارز (الريليف) وثانيهما طبقة خفيفة من اللون الذي يضعه فوقها دون أن تغير من وضوح أشكاله النحتية إلا قليلا؛ بينما كانت إعمال الرسام هاشم تايه تضع قدما في الحداثة من خلال اختلاط اجناسيتها وفق نماذجها الشائعة الآن في ما هو سائد من نتاجات فنية حداثية في الوقت الحاضر، فيتشكل عمله من مجسمات تنتمي إلى النحت، وتضم في ثناياها سطوحا ملونة تنتمي إلى فن الرسم، وبذلك تدخل إعمال هاشم تايه الحداثة من باب خلخلة الاجناسية، تلك الخلخلة التي جعلها هاشم تايه استراتيجه الحاضر في بناء تجربته بعد أن ودع النسق التقليدي للوحة في محاولة جادة من هذا الفنان لتأسيس تجربة ربما تصنف ضمن الفن الخام Brut Art او الفن المهمش Outsider Art، وهو ما سوف نتناوله في مقال لاحق عن هذا التشكيلي المثابر.
اقتصر عدنان عبد سلمان، هذا الأكاديمي التدريسي في جامعة البصرة، والرسام الأكاديمي المتفوق في تطويع اللون في رسمه الأكاديمي، فلم يمنعه استخدامه لونا أحاديا من تفجير قدرة ذلك اللون رغم قيود الأحادية، بينما ينهج عيسى عبد الله نهجا معاكسا حينما ينتقل من أحادية اللون التي كان يقطن فيها، فإذا هو الآن يحاول رسم لوحة، وان انطوت على أشكاله الأثيرة ذاتها، إلا أنها الآن تتلفع بدثارها اللوني الجديد الذي يحتاج إلى مزيد من التجارب ليتشكل منه أسلوب يطرح تجربة تعد صفحة أخرى من منجز عيسى عبد الله، هذا الرسام الذي انزوى سنوات طويلة في مشغله الصغير في إحدى زوايا سوق البصرة القديمة بين اصوات الباعة وعرباتهم، وبين جامع الكواز، حيث يحيط به نسغ الحياة في معاناتها اليومية، ونسغ التاريخ معا لتشكلا جناحي تجربته معا.

وكانت إعمال عبد العزيز احمد الدهر أكاديمية تناولت موضوعات الطبيعة الصامتة التي مازجتها ضربات زخرفيه في محاولة كسر حدة الأسلوب الأكاديمي لها.
وقدم الخطاط عبد الكريم الرمضان أعمالا توزعت فيها المساحات اللونية النقية مع إشارات لتفاريق حروف قليلة متواشجة مع توقيع الفنان الذي شكل طغراء من خط الإجازة على ما نعتقد.
جاءت إعمال عبد الملك عاشور، هذا الرسام الذي يذكرني دائما برفيق دربه هاشم حنون فانغمسا معا في فعالية كاليري مشترك ظهرت منه تجربتان، رحل هاشم حنون إلى عمان وظل فيها سنوات وما زال، وظل عبد الملك عاشور في ذات المشغل الصغير، فانغمس منذ سنوات في تجربة تجريدية باعتبارها قدرا يقيم عليها تجربته من حشد من الضربات اللونية التي ترتفع بمعراجية من الكتلة التي تحتل قعر اللوحة نحو أعالي السماء.
قدم جاسم الفضل، هذا الرسام الذي قضى ما فات من عمره الفني رساما أكاديميا، قدم أولى بوادر تحوله عن الرسم الأكاديمي شيئا فشيئا ربما نحو التجريد، من خلال تحوله الخجول نحو التعبيرية، هذه المرحلة التي شهدها الرسم العراقي في ثمانينات القرن الماضي باعتبارها نسقا مهيمنا فيه، بفعل ربما عوامل اجتماعية أهمها برأينا: ثقل وجسامة الحرب العراقية الإيرانية على الوضع الاجتماعي، وقد بشّر بعض النقاد في ذلك الوقت بهذا النمط من الفن؛ فقد صنف عادل كامل جماعة الأربعة على سبيل المثال، وهي جماعة ظهرت في ذلك الوقت، بأنهم يمثلون الاتجاه التعبيري العام في الرسم العراقي... فالتعبيرية، خلال الثمانينات، كانت نزعة أسلوبية عامة" (مجلة الطليعة الأدبية، بغداد، العدد 3-4، 1990، ص 11)، حينما شكل ما وصفه عادل كامل بـ(الاتجاه التعبيري العام) في ذلك الوقت، برأينا، ارتدادا على منجز الستينات الذي تجاوز الرسم التعبيري والوحشي لمرحلة الرواد، فكانت لوحات جاسم الفضل تذكرنا بتلك المرحلة التي كان فيها عاصم عبد الأمير، وهاشم حنون، وخالد رحيم وهل، وآخرون يرسمون بهذه الطريقة، فنا تعبيريا حاول جاسم الفضل أن يجعله في إعمال الان: قادرا على استيعاب الدفق العاطفي الذي يعتمل في داخله، ودافقا بالإحساس اللوني، وبالحركة، مع لمسات من التجريد، واسلبة الأشكال.

تودع تجربة فاروق حسن على استحياء أشكاله السابقة، فهو يترك بعض تلك الأشكال وسط علامات التجريد التي يحاول الآن أن يلجه ربما بخوف لا يسمح بترسيخ مرحلة جديدة تجريدية لهذا الرسام الذي قدم لوحات ذات طابع (محلي) ثري بالألوان والمحليات معا.
يعود محمد راضي عبد الله إلى عرض موضوعاته الأثيرة القديمة حينما قدم أعمالا تصور شناشيل البصرة بمعالجات ذات طابع أسلوبي شخصي، وقدم نوري ناصر منحوتات خشبية لرؤوس كانت تتخذ انحناءات الشجر مما يجعلها تتشاكل صوريا مع تلك الانحناءات.

فن الرسم العراقي









ملاحظات ومقاربات





خالد خضير الصالحي

1

تفتقر الكثير من الكتابات التي تندرج عندنا تحت مسمى النقد التشكيلي لفن الرسم إلى ما يؤكد مسمى النقد فيها، والأمر الأهم المفتقد برأينا هو المقاربة الأمثل التي يتم بها تلقّي فن الرسم، وهي المقاربة الشيئية او الملمسية او المادية، وان ابرز من نبه إلى هذه المقاربة، في الكتابات العربية على حد معرفتنا، الناقد التشكيلي العراقي الراحل شاكر حسن آل سعيد، ورغم ذلك فلا يمكن إنكار ان مقاربات التلقي لفن التصوير بمختلف أنماطه، تتفرع إلى نمطين رئيسيين هما: مقاربة تعنى بالموضوع المنجز، وتلك مقاربة تسود حينما تتراجع شيئية العمل الفني إلى مرتبة ثانوية من الفاعلية، وهو ما يحدث في تناول فن الفوتوغراف أكثر من اللوحة المرسومة حيث تتراجع شيئية الصورة الفوتوغرافية إلى مستويات متدنية مقارنة بمادية اللوحة الفنية التي تهيمن على بنية اللوحة وبالتالي مقاربات تناولها، وهي مقاربة ملمسية تعنى بالمادة وتقنيتها فقد "ذكر مؤرخ الفن اليوس ريغل ان احد أنواع الإجراءات الفنية الذي يتوافق مع نوع بعينه من أساليب المشاهدة ينبني على تفحص الأشياء وإمعان النظر في خطوطها الخارجية، وهذا المسار يطلق عليه ريغل البَصَري، أما النوع الآخر للرؤية الذي يركز على الأسطح ويشدد على قيمة الجوانب الداخلية للموضوع، فيطلق عليه ريغل اللمسي او الإدراكي haptical ... ففي مستوى الخلق الفني، تنتج النظرة البصرية – في حال انتماء العين للرسام – الخطية والزاوية في حين تعنى الخلاقية اللمسية او الإدراكية بالأسطح. ووفقا لصيغة ريغل، يمكن تجميع مجمل الأشكال الفنية تحت عنوان الخطوط الخارجية و، او، اللون في المستوى والحجم. العين البصرية تعمل ببساطة على مسح سطح الأشياء أما اللمسية او الإدراكية فتسبر الأغوار لتجد متعتها في النسيج الداخلي، في المنظور اللمسي، تغدو الرؤية شكلا من أشكال اللمس" (الثقافة الأجنبية العدد 4 السنة التاسعة والعشرون 2008).

2

في تناولي لأشكال الرسام العراقي المقيم في بنسلفانيا صدر الدين أمين تقفز إلى ذهني المقاربة الموضوعية، وهي مقاربة تعنى بمقارنة بين الأشكال في الطبيعة، والأشكال في فن الرسم كذلك، فقد كان صدر الدين امين ينتقل بيسر بين (أحواض) الأشكال ليشكل لنا من هذه المصادر المتعددة أشكالا فوضوية في بنائها الداخلي (تقلق) المتلقي وتجعله يقف متسائلا عن فحوى هذه الأشكال (= الكائنات)، فكان ذلك الرسام يعيد إلى ذهني دائما العودة إلى ما طرحه عالم الرياضيات (رينيه توم) في سعيه لشرح نظريته في (الكارثة الطوبولوجية)، يقول (رينيه توم) "بوسعنا ان نميز صنفين كبيرين من قولبة الأشكال غير الثابتة، كل واحد منهما يقع في احد طرفي الموشور المستمر: الصنف الأول: أشكال لا شكل لها بسبب بنائها الداخلي المعقد جدا، فهي أشكال فوضوية ولا تخضع بيسر للتحليل، أما الصنف الثاني فهي تلك الأشكال التي تشتمل على عدد من الأشياء التي يمكن التعرف عليها غير ان تكوينها يبدو تناقضيا او غير اعتيادي، مثال على ذلك الكيميرا chimera ، وهي كائن أنثوي خرافي في الميثولوجيا اليونانية لها رأس أسد وجسم شاة وذنب حية وتقذف من فمها نارا، وغيرها من الكائنات الغريبة, والأشكال غير الثابتة التي تنتمي إلى النمط الثاني هذا، وهي الأشكال المتفرعة التي تقع نقطتها التجسيدية على العتبة بين حوضين او أكثر من الجاذبية، وان ظهورها يتذبذب دائما بين الجاذبين المجاورين، وتأثير ذلك هو إقلاق المشاهد وإزعاجه، تلك التقنية التي يعرفها الرسامون السورياليون ويستغلونها" (ر. روجرز، الشعر والرسم، دار المأمون للترجمة والنشر، بغداد، 1990، ص134).

3

روى الرسام ضياء العزاوي في ملف أصدرته عن النحات والرسام الراحل إسماعيل فتاح الترك إحدى المجلات العربية، بان الرسام الراحل كاظم حيدر علق على المعرض الشهير الذي أقامه إسماعيل فتاح الترك عام 1965، بعد عودة الترك من الدراسة في روما، بأنه، أي كاظم حيدر، لو حبس في غرفة لليلة واحدة لأنجز معرضين مثل معرض الترك، ولم يوافق ضياء العزاوي وقتها على ما قاله كاظم حيدر واعْتبَرَ ذلك انتقاصا من قدرة الترك، إلا أنني، في موضوع نشرته عن الراحل الترك، نظرت إلى الموضوع من زاوية واتجاه آخر، ووجدت ان كاظم حيدر كان (محقا)، كما وجدت ذلك لم يخلّ بمكانة الترك ورفعة إبداعه، وان جوهر القضية لا يتعلق بموقف او رأي لكاظم حيدر بمكانة الترك، بل بمفهوم وفلسفة كاظم حيدر والترك بفن الرسم والمقاربة التي ينظر كل منهما عبرها إلى فن الرسم، وبذلك يختلفان جذريا في أسلوبهما المتناقض في بناء اللوحة، فلم تكن اللوحة عند كاظم حيدر بناءً شكليا فقط، بل ومخططا فكريا تهيمن فيه (الدلالة) وعلى وجه التحديد (التعبير عن الروح المحلية) الذي كان من الصعب على التشكيليين القفز فوقه في ظل هيمنة النقد الذي يروج لهذا الاتجاه وهيمنته على الكتابة في هذا الحقل وعلى المنجز التشكيلي العراقي برمته، وتشهد بذلك أعماله في معرض ملحمة الشهيد الذي أسميته مرة: "(آنسات أفنيون) الرسم العراقي"، باعتباره (العمل) الذي احدث اكبر تحول في الرسم العراقي الحديث، حينما افتتح (معرض الشهيد) عصر الستينيات بعد ان ختم نصب الحرية لجواد سليم، عصر الرسم العراقي الخمسيني، او شكل النهاية المنطقية لذلك العصر، فانتقل، في هذا المعرض، مركز الثقل إلى (السطح التصويري) باعتباره "أهم مستوى من مستويات الوجود الفني"، وحيث صارت الأولويات تنطلق من، وتعود إلى "إعادة تجريب إنتاج المرئي بصور مختلفة... والاهتمام بالمادة التي يٌنفّذ بها العمل بعفوية وتلقائية وجرأة" فكان الوعي الرؤيوي للستينيين هو (الوعي المتجاوز) ذلك الوعي الذي يحاول البدء من جديد في كل مرة من خلال وعي عال بمعالجة المادة باعتبارها " رؤية بحد ذاتها ".
لقد كانت نظرة كاظم حيدر للوحة، باعتبارها بناء فكريا يستغرق وقتا طويلا للانتهاء منها، وهي نظرة تنتمي إلى كلاسيكيات فن الرسم رغم أشكاله الحداثية، وتنتمي إلى (حكائيات) روبنز وانجيلو ودافنشي، وكل اللوحات (القصصية) التي كانت تستلهم القصص المقدس، بينما تنتمي رسوم الترك إلى فهم مختلف تماما، فمثلما لم تولد لوحات فرنسيس بيكون وجاكسن بوللوك "من ساعات طويلة من التفكير في موضوع، ولا رسمت من نقاش، بل كانت تنمو من تلقاء نفسها، من صنيع من الرسم، او ربما من انفعالات العقل اللاواعي" كما قالت لليان فريدكود، فان الترك كان يعتبر اللوحة تجربة متيريالية (شيئية)، او مناسبة لاختبار المادة، ولم تكن لوحاته، لفرط إخلاصها لشيئيتها، بحاجة إلى عنوانات مثلا، فكانت عنواناتها لا تعدو ان تكون إشارات لتمييزها عن بعضها كعنوانات جاكسون بوللوك للوحاته حينما كان لا يكلف نفسه مشقة تلفيق عنوان مناسب لكل لوحة فيكتفي بترقيمها، وهو فهم دشن عصرا جديدا في الرسم العراقي هو جيل الستينات، وبذلك فقد شكّل الترك وعدد من مجايليه: ضياء العزاوي، ورافع الناصري، وصالح الجميعي، ومحمد مهر الدين، وعلي طالب، والــ(ـخمـسـ)(ـسـتـ)ــيني شاكر حسن آل سعيد، شكّلوا الوجه الآخر من العملة التي شكل فيها كاظم حيدر وجواد سليم وجهها الأول، وبذلك لم يكن كاظم حيدر وإسماعيل فتاح الترك إلا وجهين لعملة واحدة هي المخاض الستيني الذي انقض على قداسة الأشكال الخمسينية فيه كاظم حيدر بينما أسس الترك و(مجموعته) الطليعية (الرؤيا الجديدة والمجددين) فهما جديدا للوحة باعتبارها مغامرة متيريالية، او واقعة شيئية، لذلك كان الترك، مثله في ذلك مثل فرانسيس بيكون الذي لا يستغرق كثيرا في التفكير بموضوع اللوحة، فيكفيه ان يغمس فرشاته باللون، ويضعها على سطح اللوحة ليظهر وجه الشاخص الذي كان يظهر ويعاود الظهور في كل مرة بمظهر وقناع جديد.

تخطيطات هاشم حنون




هيمنة الانقطاعات..
والفجوات اللونية

خالد خضير الصالحي
Khkh1956@yahoo.com

حينما أطلعني هاشم حنون على تخطيطاته التي أنجزها مؤخرا دُهشتُ ليس فقط من طريقة انجازها، بل ومن انجازها أساسا، فقد كنت اعتقد جازما ان الرسام هاشم حنون ليس رساما مخططا، بل كنت اعتقد انه رسام لا يخطط بل ولا يمكن ان يخطط، لأنه وأمثاله يفكرون بطريقة ملونة فإذا به يفاجئني ويخطط، رغم انه لم يخطط بطريقة تقليدية مثل المخططين الآخرين، فقد كان فعل تفكيره (بطريقة ملونة) جاثما على تخطيطاته، فكل تلك التخطيطات التي اطلعت عليها سابقا كانت ليست سوى مخططات أولية للوحات غير منجزة او تنتظر الانجاز، بينما جاءت تخطيطاته التي أطلعني عليها مؤخرا مليئة بالخروم اللونية التي تتخللها، هنا او هناك، فهو يرسمها كما لو كانت مشروعا للوحة او ربما مخططا أوليا (سكيجا) لوضع اللون عليه لاحقا.
يضع هاشم حنون صفحة تخطيطاته ميدانا لاشتغال الفجوة، التي تسمى أيضا (مواقع اللاتحديد)، ويصفها محمد خرماش بأنها "البياضات والفراغات والانقطاعات الموجودة عنوة في النص، والتي تسمح للقارئ بالتدخل كي يملأها، ولذلك يسميها إيزر (الفراغ الباني) وهي ما تشمل: الانفكاكات التي تدعو القارئ إلى وصلها، وإمكانية الانتفاء التي تدعو إلى التعصب ضد بعض ما يقدمه النص كحقائق أو مسلمات، وتحفز القارئ على التفكير والبحث عن التلاؤم وإيجاد الوضعية المشتركة... فالمعنى ينبني وفق قوانين تؤسس في غمار القراءة... التي تثير الانتباه إلى الأصل المخفي أو العناصر الغائبة... وأن القارئ ... يجد فرصته في البياضات أو مواقع اللا تحديد التي يهيئها النص ويتدخل كشريك للمؤلف في تشكيل المعنى. وهذا التدخل يكون بالعمل على سد الثغرات وتكوين الحقل المرجعي وتحويل مواقع اللا تحديد" ، وتتحقق جغرافية هذه البياضات في تخطيطات هاشم حنون في الفراغ الناشئ من غياب اللون مما يعني إنها مفهوم (بصَََري) وان ملء هذه الفجوات البصَرية (اللونية) هي الفاعلية الأهم التي يهيئها الرسام هاشم حنون في تخطيطاته، والتي هي أهم فعالية مطلوبة من القارئ في تلقّي هذه التخطيطات؛ وبذلك تكون هذه الفجوة خرقا، او إحداثا لخلخلة في الوئام الطبيعي الذي يلف لوحات هاشم حنون الملونة؛ وبذلك فهو يخلق ذات الفجوة التي يصنعها مجايلاه الرسامان هاشم تايه وعيسى عبد الله من البصرة ولكن بطريقة معاكسة حيث يرسم هذان الرسامان لوحاتهما الزيتية بروح تخطيطية يشكل اللون فيها عنصرا مضافا؛ بينما يعكس هاشم حنون المسألة فيرسم تخطيطاته بروح اللوحة الزيتية ويكون الخط هو ذلك العنصر المضاف.
تتناص أعمال هاشم حنون مع العديد من المرجعيات، خارج وداخل فن الرسم، فهو لا يتحرج من تفعيل كل الجينات الممكنة في الفن او خارجه من تلك التي يمكنها ان تنتقل إليه بشكل عفويٍٍٍٍّ ويسيرٍ لتندمج في لحمة منجزه تماما، إلا انه أيضا لا يتحرج من التناص الإبداعي مع منجزه السابق كذلك، فيستل منه أيقونات أثيرة لديه، وأشكالا سبق ان احتلت مكانا أثيرا في منجزه، فتتوالد مراحل تجربته بيسر؛ مرحلة عن أخرى، مما جعل تحولاته قادرة على ان تحفظ أسلوبه الخاص وشخصيته المتميزة ولا تحدث اختلالات كارثية في طريقته بالرسم؛ رغم انها تضيف لمنجزه في كل مرة لمسة جديدة مؤثرة، فقد كانت أشكال شخوصه في تجربة تخطيطاته هذه تبدو وكأنها مستعارة من عمق تجارب الر سم الخمسيني العراقي من خلال أشكاله التي تبدو اقرب ما تكون إلى أشكال فائق حسن في لوحاته القليلة التي تأثر بها بدعوة (التعبير عن الطابع المحلي) والتي كان فيها يختزل أشكاله إلى مساحات لونية مسطحة نقية تقريبا، لقد استعار هاشم حنون تلك الأشكال وأدخلها مختبره الشخصي في لوحاته الملونة، وها هو الآن يزيح عنها دثارها الملوّن، ويحتفظ بمحيطاتها الكفافية التي كانت تصنعها الألوان المتجاورة، لتتحول عنده، في التخطيطات، إلى خطوط حقيقية وعلى القارئ ان يعيدها سيرتها الأولى باعتبارها خطوطا كفافية وهمية تفصل بين مساحات لونية بعد ان يكون قد ملأها ثانية بألوان خياله الشخصي.
ان الفجوة التي يتخذها هاشم حنون استراتيجا ثابتا في بناء تخطيطاته، مفهوم شيئي (متيريالي او ملموس)، وان ملء هذه الفجوات هو فاعلية يقوم بها المتلقي، لذا فهي فاعلية تشمل اللوحة والمتلقي معا، وعلى الأخير ان يستند في ذلك على مخزوناته من الخبرة السابقة.
ان حقائق الأدب (السرد على وجه الخصوص)، رغم كل ما قد تمنحنا إياه من معرفة أحيانا، فهي لا يمكن الاستناد إليها باعتبارها جزءا من حقائق التاريخ، ولا يمكن الاستناد إليها باعتبارها تاريخ وقائع او قوانين، فالشخوص الطائرة عند ماركيز، و(المسخ) الذي كتب عنه كافكا، والشخوص الطائرة في لوحات شاغال، ليست تحديا لقوانين الجاذبية او لقوانين الواقع بل إعادة تأسيس (لقوانين) الرسم التي هي ليست بالضرورة ذات صلة بقوانين الواقع، فتوزيع الشخوص على مساحة اللوحة، تفرضه قوانين اللوحة وحاجتها إلى ردم الفراغات فيها، ولا تفرضه بالضرورة، قوانين الواقع، وهو ما فعله هاشم حنون حينما وزع أشكاله على اللوحة، بحيث ظهر قسم منها طائرا في الأعالي، وقسم منها منطرحا في الأرضية والقسم الآخر أجزاءً مبعثرةً وموزعة في أنحاء اللوحة.
يظلل هاشم حنون أجزاءً من تخطيطاته ويترك أجزاء أخرى خطوطا خارجية فقط، وفي ذهنه ان تتخذ الأشكال الداكنة في التخطيط وجودا لونيا ثقيلا ورئيسا في اللوحة، بينما لا تتخذ الأشكال التي حددت بالخطوط الخارجية فقط سوى وجودا شبحيا متناغما ومندمجا بقوة، بل ومندغما في سطح اللوحة ودرجاتها اللونية.
يعود هاشم حنون، في تخطيطاته، إلى قداسة الشكل الواضح، محدد المعالم الذي نستبين ملامحه، ذلك الشكل الذي هجر ملامحه الواضحة والمستقلة بعد معرضه الذي أقامه عن الشهيد في قاعة الرواق عام 1990، وكانت أعماله فيه تعبيرية اشِتغلها الرسام بعناية فكانت معالمها واضحة، ومدروسة، تماما كأشكاله في تخطيطاته التي أنجزها مؤخرا، وفيها يؤكد هاشم حنون تقديسه للشكل وحدوده الواضحة والقاسية، ويعيد فيها تقديسه للخط ودوره في بناء تلك الأشكال.

الخميس، 3 سبتمبر 2009

(هجرة نحو الخراب).. معرض الصور الفوتوغرافية الشخصي للفنان العراقي زياد تركي في جاليري دار الأندى (عمان)


زياد تركي ..
سحنة السطوح واثر الزمن عليها

خالد خضير الصالحي .. البصرة
khkhiraq@yahoo.com

إذا كان ما حدث في العراق، كما يقول سهيل سامي نادر"يحتاج إلى مرثية، إلى بكاء خاو من ذلك البكاء الذي خبره الشاعر الألماني ريلكة "، وهو كذلك فعلا، فان معرض الصور الشخصي للفنان العراقي زياد تركي في جاليري دار الأندى (عمان) (هجرة نحو الخراب).. كان إعادة فعل الخلق باعتباره وجودا تقنيا ليس في طبيعة الموضوعات التي مازالت مكرسة لـ"عوائل كانت هائمة فظهرت فجأة من فجاج البؤس العراقي القديم. بوابة مخلوعة منهوبة وقطعة بائسة ألصقت على حائط جانبي كتب عليها بخط تلميذ بالابتدائية (هنا يسكن عوائل وليس لصوص). " (سهيل سامي نادر)، وإنما في طبيعة الصورة الفوتوغرافية التي يقدمها زياد تركي لتتعين في الزمان والمكان معا، صورا غائرة في الزمن من خلال الغور في فعل ذلك الزمان بالمكان فبعد ان "كان ينظر إلى المأساة بالأبيض والأسود فقط؛ ها هو الآن، يدخل اللون إلى الصورة" ليس فقط ليزيد من الإحساس بهول الفاجعة، كما يقول سعد هادي، وإنما ليرينا اثر الزمن في جوهر الواقعة المكانية، فسطوحه التي ملأها الصدأ لا يمكن الإحساس بها بالأبيض والأسود وتحتاج إلى لون الأكسدة لمنح الصورة ملمسا صدئا، فكان موضوع الصورة، او تأثيرها الدرامي، يتراجع إلى خلفية الصورة، إلى حيطان الموضوع وما تركه الزمن والعابرون عليها.
كان التلصص هنا اقتناصا للقطة دونما هندسة مسبقة، تلصص يعيد توكيد ان الكاميرا مازالت صندوقا اسود بثقب (يتلصص) على الخارج، ثقب مملوء برغبة بصرية عارمة، ربما هو حب في الاطلاع، او هو فضول معرفي او فضول جنسي، فتكون تلك الرؤية من خلال الثقوب جزءا من (منظومة) لمراقبة الخارج، او هي جزء مما يسميه فوكو "إمبراطورية النظرة المحدقة"، نظرة تهدف، في النهاية، إلى تأسيس نظرة مركزية، وتستقبلها عين مركزية، غير مرئية، تحاول في النهاية إلى الوصول او تلمس طريقها نحو اللامرئي من خلال اختراق المشهد عبر زاوية نظر استثنائية كتلك الزوايا التي يختارها المصور الفوتوغرافي فؤاد شاكر حينما يحاول الإمساك بموضوعه من خلال زاوية الالتقاط الاستثنائية، زاوية يتم اختيارها لتنتج نقطة تلاش تمثل بؤرة الموضوع اللامة، وفي ذلك متعة تعادل متعة استراق النظر من (ثقب) (=زاوية التقاط) عصية على الاكتشاف، بينما يفارق المصور المغربي زكريا جحيشة فؤاد شاكر تماما، فهو يختار زاوية التقاط مكشوفة ومفتوحة تقابل البطل وجها لوجه، بعد ان يدثر ذلك الوجه المكشوف، وأية لقطة يقتنصها بدثار اللون الأسود المظلم الذي لا يكشف إلا جزءا طفيف من المشهد.
ان فعل التخفي، تخفي العين الراصدة، ليست عملية أحادية الجانب يمارسها المصور فقط، بل هي لعبة ثنائية يتجاذبها طرفا اللقطة: المصور والهدف اللذان يمارسان لعبة الحجب والإظهار، ففي تجربة المصور الفوتوغرافي زياد تركي من الصعب ان يقرر المتلقي من كان الأكثر فاعلية في لعبة الإخفاء والإظهار، الكائن أم المبدع، فحينما يسترق زياد تركي النظر يقنن (البطل) الحدود المسموح بها للنشر، وبذلك يمارس كلاهما فعل رقابة تقنين الحدود، وتقنين القيم المسموح باطلاع الآخرين عليها من خلال زاوية كشف تسترق مدى الكشف المسموح به من قبل الكائن، ذلك ما تبنته المصورة الفوتوغرافية تانيا جراماتيكوفا التي وصفتُ تجربتها بأنها "أجساد، إذا حاولت ان تسترها فليس أكثر من ستر يكشف عما تحته ليكون كأستار النص التي تريد ان تقول ما تحذفه، وبذلك يكون الأمر الحاسم في الصورة ليس ما يظهر بل ما يكشف عما يختفي، فيتجسد الجسد بطريقة مواربة تحمل الفكرة ونقيضها في وحدة غريبة ومقلقة فيما يخص تعاملها مع الجسد الإنساني؛ حتى أنها تتخذ الموديل ذاته لتكشف عنه حجبه مرة، ولتدثره بتلك الحجب تارة أخرى، باحتفال يكرس الجسد، في بعده الشيئي وفي ماديته على الأقل .. موطنا للدلالة"، وهي الآلية ذاتها التي تعاملت بها المصورة مع صور الأزقة وسطوح المحيط، "فهي تتخذ الجدران، والأزقة، وموجودات المحيط باعتبارها نصوصا مكتظة بمعنى مخبأ وذا أفق محيطي، فكانت تصور الأزقة الضيقة ذات الجدران العتيقة باعتبارها عينة تصور الجزء الظاهر من جبل الجليد: مدينة غاطسة ومغطاة بقدر لا حدود له من عري المعاني الخبيئة التي أوحت بها المصورة دونما إفصاح"، بينما يمارس زياد تركي فعل الإخفاء والإظهار مع السطوح، فمن خلال زاوية غير مرئية يختلس زياد تركي نظرته المحدقة في جوهر المشهد، نظرة متلصصة وخبيئة كليا، فتضع الواقع، والاهم أنها تضع سحنة ذلك الواقع تحت معاينة دائمة او ربما الأدق القول أنها مراقبة دائمة.
يتيح زياد تركي نمطين من المقاربات لمنجزه: مقاربة تعنى بالإدراك البصري الكلي لأشكال الصورة من خلال موضوعها، وهو ما ينشغل به معظم دارسيه، وهو أيضا ما تكتفي به الكثرة الكاثرة من المصورين الفوتوغرافيين، حيث الاهتمام بالملاحظة الخارجية للأشكال ومظاهرها، والاهتمام فيها بالمراقبة الخارجية دون الوعي بالتفاصيل، وبينما يكتفي البعض بذلك يتيح زياد تركي إمكانية مقاربة لمسية haptic لأعماله عندما يضع المتلقي في علاقة شيئية مادية ولمسية مع العالم الخارجي من خلال الصورة، وإسقاط الذات باعتبارها الممثل الحقيقي للصورة، فيستمد ذلك المتلقي ذاته موضوعا، وهي نمط من التعبيرية في الفوتوغراف، وهو المقترب الذي كان يشدنا إلى فوتوغرافيات زياد تركي حينما تتحول السحنة الى سجل تاريخ: للمكان، والبشر، وجذوع الشجر والنخيل، وللسطوح التي خلف الزمن بصمة مكوثه الطويل عليها، فتكون تلك الشريحة عينة للوجود المادي بأسره، شريحة من الوجود تنطق كأثر بابلغ خطاب...، انه خطاب أسس على امتزاج بين المشاهد والعالم، بين الرائي والمرئي، وبذلك يتحقق خطاب الفن الذي يفارق آليات خطاب العلم، ففيما يكتفي الأخير بالنظر إلى الأشياء من أعلى، يغمر التصويرُ المشاهدَ داخل عالم الرؤية...، وهو ما يفعله زياد تركي الذي ينغمر، ويغمر متلقيه في عملية تحسس للوجود البصري، والانغمار بخرائط السطوح الصدئة والوجوه المتغضنة، والانغمار بالسحنة الغارقة في الظلام حينا وفي الضوء حينا آخر...





بدل رفو المزوري في فوتوغرافياته





حياة اللقطة
في خطوطها الخلفية

"اللقطة بالنسبة لي هي الضربة الحاسمة أو نهاية القصيدة أو فكرة القصة، فاللقطة في نظري لا تتكرر مرتين" بدل رفو المزوري
1
لم أكن اعلم أن الكاتب العراقي الكردي المغترب في النمسا بدل رفو المزوري ليس فقط من هواة التصوير الفوتوغرافي بل ومن الضليعين الذين يمتلكون فيه منجزا يحسب لهم في هذا الحقل الإبداعي، وكان من حسن حظ الفوتوغرافيين على وجه العموم إن الصور الفوتوغرافية لا يمكن أن تكون متفوقة باتصافها بـ(ـالاصلية) مقارنة مع النسخ الالكترونية، وهو الأمر الذي يتحجج به البعض في رفض الكتابة عبر النسخ الالكترونية للوحات المعروضة في المواقع الالكترونية، عليه كان دخولي موقع الكاتب، العراقي الكردي بدل رفو المزوري المغترب في النمسا، كان كافيا، وفرصة ممتازة كشفت لي جانبا خبيئا من اهتمامات هذا المبدع الذي جرب مختلف صنوف الإبداع ونجح فيها، فكانت أكثر الخصائص التي شدتني هذه المرة إليه، والتي أتوقع أنها ستشد المتلقيين الآخرين في أعماله الفوتوغرافية ذلك الاعتناء الآسر باللقطة العابرة، وهو أمر قد يستغربه البعض حيث يبدو متناقضا تماما مع أعماله التي اخترناها كنماذج للدراسة هنا؛ فانه غالبا ما يصور شواهد ثابتة كالتماثيل، والمناظر الخلوية، والموجودات الجامدة التي هي بطبعها لقطات تسمح ببناء اللقطة بطريقة مدروسة وحرفية؛ لكن المظاهر غالبا ما تكون خداعة؛ فان بدل رفو المزوري، حينما يصور تلك الواقعة الثابتة فانه لا يكتفي بتقديمها جزيرة معزولة، لأنه يحيطها بـ(ـإكسسوارات) متغيرة تعطيها طابعا يوميا، ودفقا من روح متغيرة، زائلة؛ فتصطبغ اللقطة بمعنى خفي، واثر اكسبها أهمية حينما شكلت وسيلة مكنتنا من اقتناص الزائل المتغير، ومنحه جوهرا صلبا يشكل ما يسميه الناس الذكرى، تلك الذكرى التي أتيح لها أن تنجز أحد أهم تحققاتها المادية وهي اللقطة الفوتوغرافية.

2
غالبا ما أعامل بعض التجارب الأكاديمية التي لا تكترث كثيرا بانجاز إزاحة شكلية مؤثرة في أشكال المشخصات، وتقترب كثيرا من اشكال الواقع، وهو حال تجربة الرسامة العراقية المغتربة في هولندا عفيفة لعيبي؛ فأعاملها سهوا احيانا ودون قصد، وكأنها لقطات فوتوغرافية وليست لوحات مرسومة، فقد كتبت مرة عن معرض لها، وتساءلت عن أهم الإضافات فيه على تجربتها السابقة في المعرض الذي سبقه؛ فكتبت مجيبا عن ذلك السؤال، بان ذلك يكمن في بناء علاقات أجزاء (اللقطة)، وان احد أهم التغييرات المهمة في معرض عفيفة ذاك كان: إعادة الصلة بين الشاخص وبين (العالم) الذي يحيطه وذلك من خلال: أولا، شكل نظرة الشاخص المتجهة إلى الخارج (=نحو المتلقي)، فحيث لم تكن هنالك أية نظرة حوار بين الاثنين فيما مضى، فإذا بتلك النظرة تتجه الآن صوب ذلك المتلقي، وهذا يعني محاولة لردم القطيعة مع العالم الخارجي (=خارج اللوحة وخارج النفس)؛ والتي قد تكون تعبيرا سيكولوجيا لبداية مرحلة جديدة من (التصالح) مع العالم الخارجي من قبل هذا الشاخص (امرأة غالبا)، وربما هو محاولة من الرسامة ذاتها للتصالح مع الواقع، ربما، ثانيا، لقد تغير شكل العلاقة بين الشاخص والخطوط الخلفية للوحة، من خلال انحسار الظلام من اللقطة، واكتساح الضوء لها؛ مما كشف عن الموجودات التي ظلت، طوال المدة الماضية، خبيئة، فبدأت بالظهور في المشهد الخلفي للقطة: مدنا كانت غارقة في ظلام أطلنطي قبل ذاك، فظهرت معالمها الآن، وهو ما فرض علاقات جديدة بين موجودات اللوحة، علاقات ذات طابع نفسي وشكلي معا بين الشاخص والخطوط الخلفية؛ فبدأت اللقطة تأخذ طابع المكان المؤسس وفق ذات الأسس التي تحكم اللقطة الفوتوغرافية؛ وبذلك تتدفق الانساغ الخبيئة للوحة، وتغدو أقبيتها، وهوامشها، وطياتها، وثائق معرضة لقراءة اركولوجية تأخذ في حسبانها كل علاقات مستوياتها، وهو ما كان استراتيجنا مع تجربة بدل رفو المزوري الفوتوغرافية.

3لقد كان بدل رفو المزوري يهتم، كما اهتمت عفيفة لعيبي في آخر أعمالها، وبشكل ملفت، بالخطوط الخلفية للقطة، بالعلاقة بين مستوياتها البنائية، تماما كما يهتم المسرحيون بتأثيث المسرح بالديكور ليكوِّن خطوطا خلفية للأبطال الذين يحتلون واجهة الخشبة مع خفقة حياتية يومية مرت سريعا خلف المشهد الذي يبدو ثابتا، وبالتالي مبنيا بإحكام، لذا فهو لا يترك الكثير من (الشواخص) الجامدة خاما معزولة عما يحيط بها؛ بل يدعها تستمد وجودها (وموضوعها) من خطوطها الخلفية تلك الخطوط النابضة بالدفق الحياتي؛ مما يخلق آصرة قوية بين الشاخص الذي يحتل واجهة اللقطة (=موضوعها) وبين تلك خفقة أو اللمحة الحياتية التي تبدو عرضية لا أهمية لها باللقطة، فإذا هي جوهر ذلك التوافق العجيب الذي خلقه المزوري بأبسط الوسائل التي تمكنت من خلق روح التوافق والتواشج البسيط والغريب بين هذين العنصرين الذين هيمنا على اللقطة فتشبعت كل أجزائها به.