الجمعة، 30 يناير 2009

النحات هيثم حسن في آخر تجاربه.. برودة البرونز وحرارة المانيكانات





1
كانت واحدة من أهم خصائص تجربة النحات العراقي المقيم في عمان هيثم حسن، إن تجربته، حالها في ذلك حال تجربة أستاذه إسماعيل فتاح الترك، قد تمثلت بطريقة واعية او لا واعية في ذلك النزوع الإنساني نحو البحث عن الخلود، ومحاولة استعادته متيرياليا من خلال المادة الصلبة للنحت أيا كانت، وهو ما اتصفت به حشود الدمى والمنحوتات الرافدينية القديمة، والتي شكلت كذلك أعظم القواسم المشتركة مع تجربة أستاذه النحات العراقي الراحل إسماعيل فتاح الترك، وسواء كان اقترابه منها بشكل واع او لا فان معرضه الشخصي الذي أقامه في عمان 2004 بعنوان (تحية إلى إسماعيل فتاح) كان نمطا من إعلان بيان براءة، ونفض لليد عن ارث تجربة كان شبحها قد تكرس وجوده سواء من خلال تأثيرات ما كانت قد ظهرت فعلا، او توهمها بعض الكتاب؛ فصارت لفرط ما تكررت أمرا (مفروغا منه)، فكان ذلك المعرض بدءا للتفرد الأسلوبي، وتصفية لحسابات شاملة مع ارث الراحل الترك الذي مازال يجثم على تجارب عديدة في النحت العراقي.

2
كانت تبدو المنحوتات السابقة لهيثم حسن (بمادة البرونز) ذاوية؛ ربما كانت كذلك بسبب عتمة البرونز، وربما حتى بسبب (برودته) بالدلالات الملمسية الايروتيكية، وربما بسبب إخفاقه في نقل الإحساس بالجمال المحتدم داخل النحات حينما تخالطه الايروتيكية؛ فكانت منحوتاته تبدو وكأنها تمارس لعبة ذوبانها الجليدي البارد لتتحول إلى جزء من قاعدة التمثال، وكان هدف النحات، في تلك اللحظة، أن (يوثقها) قبل أن تذوب؛ لتتحول إلى قاعدة فارغة لا تمثال فيها!.
تبدو قناعات النحات هيثم حسن وثقته بقدرة البرونز قد شارفت على منتهاها، ذلك على الأقل في ثقته بقدرتها على نقل الإحساس الخاص بجمال جسد المرأة، فقد كان ذلك يبدو أمرا عصيا عليه؛ مما جعله يبحث عن مادة أخرى قادرة ومطواعة على أن تتوسل في ذلك باللون، وانعكاسات الضوء الثرية في المنحوتة، وهو ما لا طاقة للبرونز عليه. فقد كانت منحوتاته أجسادا ممتلئة بالرغبة في التحليق عاليا والخلاص من قيود قواعدها، فقد كان جلها ينتمي إلى مادة البرونز انتماءً مادياً فقط، لأنها كانت تتمتع بليونة لا عهد للبرونز بها ففد كانت تنتمي، برأينا، إلى مادة أخرى بعيدة كل البعد عنه، إنها المادة الأشد رخصا وبدائية ومطاوعة، تنتمي إلى دراما الطين، المادة التي خبرها هيثم كثيرا، وفتن بها منذ عقود، وكان يستثمر طاقاتها الدرامية لصالح عمله النحتي "حيث ليونة وملمس الطين" ...

3
إن القدرة الاستثنائية للنحات هيثم حسن على الإحساس بجوهر المادة (=شيئيتها) جعله يدرك أن طاقة التعبير التي استثمرها في البرونز طيلة السنوات السابقة قد استنفدت وبالتالي قد شارفت لديه على نهايتها، وصار عليه أن يغيرها هي، لا أن يغير أشكاله أو تكنيكاته فيها، فشعر أن المادة الجديدة المؤهلة للتعبير عن (العري) الجميل يجب أن تقترن بعنصرين مفقودين في تجربته سابقا، ولا يتيحهما البرونز: اللون والضوء.
في مادته الجديدة انتصبت جذوع منحوتاته بعري فاضح حاول هيثم حسن كبحه من خلال ما كان يجريه على كل منحوتة من (العاب) تجريدية تقتطع أجزاء من الجسد في عملية كبح، ربما لا واعية للعري الداعر الذي يشعره في داخله، او ربما في داخلها، والذي يشي به امتلاء أجساد منحوتاته، والذي يحاول أن لا يسمح لنفسه إلا بإظهار قدر طفيف منه.
لم ينحت هيثم حسن منحوتاته إنما كان معرضه يبدو وكأنه قد شيد من قالب واحد صنع لينتج جيشا من المانيكانات التي يجري عليها آخر اللمسات التقنية واللونية التي تعطيها دفق تنوعها الذي يكفل أن لا يكون المعرض وكأنه منحوتة واحدة، يذكر أستاذنا الناقد سهيل سامي نادر ان هيثم حسن كان قد "مارس في منحوتاته دورا جديدا، فهو الآن خياط ألبستها، مرقع تعابيرها، وملصّق العلامات التي تنسجم مع ذوقها الافتراضي، وملون أجسادها، ومن يتستر على فتنتها أو يكشفها، يبالغ معها، يتحفظ، يتسلى، يرفع الكلفة، يستسلم للإغراء ... سواء عن طريق إسقاطاته الذاتية أو تحليل طبيعة الشخصية التي ينحتها من حيث الحجم والتعبير العام".
وقد أمكنه بسبب هذا التمييز اللوني الإضافي من خلق لقاءات بين شخوصه تتصف بالحميمية وليس بالصراع كما حدث في تجربة قديمة أشرت إليها، فضلا عن تعدد الوضعيات التي تمتاز بالعاطفة والحركة.
لست أظن أن مشكلة لون المادة الأصلية للمادة حلت بهذه الوسيلة بل إن التجربة الجمالية نفسها اتخذت مسارا وبعدا آخر كان الفنان في انفعاليته وحيويته وطريقته في الاستجابة مستعدا لها. والحال إن إكساب جلد جديد لمنحوتاته لم يقلل من نشاط كتلها في التعبير الفضائي، كما إنها حافظت على وقارها الذاتي حتى وهي تنفتح إلى الخارج بسبب اللون، بل لعلنا سنلاحظ إن هذه التجربة أطلقت شهية الفنان في اقتراح كتل تعبيرية جديدة وتحديدات شكلية تضافرت مع اللون في توليد أحاسيس واستجابات جديدة؛ فكان تواقا لاستثمار سحر وهيمنة الألوان وتأثيرها على المتلقي، وكان كنحات، يحاول أن يمارس لعبة خرق الاجناسية التي برع فيها الرسامون الذين مارسوا النحت، فها هو يمارس ما فعله آخرون قبله: النحات محمد حسن عبد الله، والرسام ضياء العزاوي في معرضه قبل بضع سنوات في قاعة الجدران الأربعة، حينما كانوا يستخدمون اللون مؤثرا دراميا ودلاليا من خلال ترك الحرية للألوان في قول ما يريدون... "وتلك مزية تأشر لصالح مشروع وعيه الجمالي الملون والمتفرد بدخول أدوات الرسم وسيطا في النحت"، ..