الثلاثاء، 12 أغسطس 2008

الرسام هاني مظهر

الرسام
هاني مظهر













الصور الأولى


في مقال سابق لي عن الرسام العراقي المغترب في لندن هاني مظهر ، وكان بعنوان (تجربة الرسام العراقي هاني مظهر .. يتجاذبها مستقطبان رئيسيان من الفن الرافديني) افترضت بداية وجود مايشبه النظام الجيني الذي ينقل مورثاته من العام الى الخاص في التجارب الفنية، اي من الحركة العامة في الفن لتنتهي مستوطنة التجارب الفردية، فافترضت انتقال جينات الفن الرافديني القديم إلى جيل الفنانين المعاصرين وتحديداً الرسام هاني مظهر، وأهم هذه الصفات الثقافية الموروثة هي توحّد السماويّ والأرضي في ذات التجربة ، فلقد استند الفنّ العراقّي السومري إلى نظرة دينية شاملة للكون ... وكما يقول أنطوان مورتكات ، ويؤكد بأن(روح ذلك العصر امتزجت فيه المادة والروح أحدهما بالأخرى) ... بل أنهما راحا منذ البداية يوطّدان طابع الفن السومري في الصورة المنفردة وفي تركيب الأشكال أيضاً، فلقد استمرت الصفتان الأساسيتان تتصارعان في الفن العراقي الرافديني القديم وعلى مر العصور.
فجاءت تجربة هاني مظهر متجاذبة من ذات المستقطبين الرئيسين للفن الرافديني، وهما يشكلان عنده معاً البؤرة المولدّة لكل إبداعاته، فقد شكَّل المقدس( الإلهي، السامي، الشعريّ، الخيال المطلق) والأرضيّ ( الحّسي، عالم المشخّصات بما فيها من أشكال وعلامات ) عناصر (ميزانسين) لوحة هاني مظهر، وذلك تبعاً إلى درجة الشدّ التي يمارسها أحد هذين المستقطبين، حيث يفرض كل منهما طبيعة عناصر اللوحة عنده، فيقترن المقدس بالتجريد في درجاته المتطرفة (العماء اللوني)، بينما يجرّ الأرضيّ اللوحات إلى الموجودات الأرضية المشخصة ، وتدخل ضمنها العلامات ومنها الهندسية.
فكان يستعين بتقنية الإشارات العشوائية في إعادة ترتيب وموازنة عناصر اللوحة وبالتالي نقلها من مستوى لأخر، من الشعريّ( التجريد) نحو الأرضي (التشخيص) ، أي من الباطن (العماء) إلى الظاهر من خلال إجراء عملية الانقطاع التي وصفناها في مقال سابق عنه ، والتي يخلقها البياض المضاف إلى اللوحة ، وهو ما يوفر فرصة لاستثمار تقنية حقل الإشارات العشوائية مترامي الأطراف من المتعرجات ، وإن لم تكنْ تلك التقنية كافية، فستكون نتيجتها توفر الشروط اللازمة من أجل تحقّق فعاليّة العلامات باتجاه تشكل تكوينات خطية، قد تحدث بصفة عرضية، ولكنها في النهاية توصي وتؤدي إلى ظهور أشكال لا تحتاج سوى إلى إضافة لمسات طفيفة من الخطوط لتتحول إلى مشخصات ( أشكال أرضية) من خلال تحقق الاندماج الشكليّ كنتيجة أخيرة، فيبدأ هاني مظهر بإضافة إشارات ( علامات) هي مرحلة وسط بين العماء وبين التشخيص، ونقصد بتلك العلامات بعض الأشكال الهندسية، والإشارات الكتابية، كالمثلثات والدوائر والحروف والإشارات المرافقة لها، والأرقام والخطوط والنقاط ومجزءات كل تلك العلامات، وبذلك يحتكم هاني مظهر في النهاية إلى الجانب العقليّ من الرسم، والذي يعود باللوحة إلى سماتها الأرضية ( الحياتية) المفقودة فتغزو العلامات المشخصة أخيراً سطح اللوحة وعمائها اللوني .
الا انني الان بدأت ااقرأ هذه القضية بشكل اخر ، وهي انها قوة وحركة بندولية تتأرجح بين جاذبين رئيسين هما: مشخصات الواقع من طرف ، والمعطيات المجردة (=السحنة اللونية والشكل الهندسي واللامشخص) في طرف مناقض، فكان بندول تجربته يتأرجح تارة صوب المماثلة (الحرفية) مع مشخصات الواقع وتارة صوب لوحة تتسيدها الدلالات التعبيرية للون دونما وجودٍ محسوس لأية علاقة مشخصة، سوى تلميحات هندسية، ذلك راجع برأينا الى تشبّع الرسام هاني مظهر بأشكال المشخصات وتوفره على مقدرة لونية عالية تجعل تجربته في حنين دائم لتلك العناصر، فرغم محاولاته المستمرة لابقاء خيط رفيع يربط اشكاله بمشخصات الواقع الا انه يبقى رساما تجريديا متمكنا ، تهيمن على لوحته اشارات ليست مشخصة ولكنها ذات طبيعة هندسية يحاول ان يجعلها مهيمنة شكلية في بناء لوحته، وكأنما كان يحاول التخلص من انطباعاته الذاتية وشحنها بعناصر معرفة (موضوعية) تكبح جماحها، وبذلك فهو، حتى وان اتخذ (اشكال) الواقع، وغالبا ما تكون هندسية، فانما يقدمها عبر مسبقات يقينية، كما يسميها باشلار او من خلال (هندسة ملموسة) على حد تعبير meny ،وبهذا يعكس هاني مظهر رغبة متطرفة وخفية في (تهندس الرؤية) وهو ما دفعه الى البناء على (بلورة هندسية)، تماما مثلما يبني هاشم حنون وفاخر محمد تجربتهما في الطرف الاخر من التجريد على ( بلورة مشخّصة)، وغالبا ما تكون تلك البلورة الهندسية، عند هاني مظهر، مثلثا مقلوبا (قد يمكن الانتباه الى دلالاته الانثوية والجنسية في لوحة هاني مظهر ، كما قد يمكن التذكير بدلالاته الخصوبية كما هو عند هناء مال الله)، هذه البلورة الهندسية تهيمن لونيا وتكوينيا على طوبولوجيا اللوحة غالبا، وبذلك يؤنسن هاني مظهر اشكاله المجرّدة والايحاء بشخصنتها من خلال استلالها من الشكل المشخص، بذلك فقد ترك الباب مواربا للعودة ثانية الى (الصورة المادية) التي تحقق ارضاء سريعا للنفوس التي تبحث عن ضالة مشخصة، فكان هاني مظهر يتعامل مع تلك (البلورات الهندسية) باعتبارها (الصور الاولى) حيث الرياضيات الغامضة التي تتسم بالافتقار الى الوضوح الشكلي الكافي ، انه اذن يلجأ الى نمط من هندسة مبسطة و(مشاعة)، تبحث عن (بساطة جوهرية) هي ما يبحث عنها الرسام ذاته، فتنتهي اليها تجربته حيث تستعاد اشكال الواقع من خلال اصغر عناصره الهندسية التي تشكل حدا كامنا في النفس الانسانية في مراحلها (القبعلمية) حيث الصور الهندسية شديدة الاغواء للحواس، وحيث يتم النظر لأية اشكال مغلقة باعتبارها اشكالا طوبولوجية مغلقة كما يقرر ر. روجرز، لتشكل (بقعة) لونية تشكل بدورها (كميات ممثولة) هي في منزلة ما بين الملموس والمجرد يشتغل العقل فيها للوصول الى درجة من التوفيق بين (الرياضيات) والهندسة، بين القوانين والوقائع، فينجذب الفكر نحو( بناءات) اكثر تجريدا مما هي واقعة، نحو (حقول تصورية) تتقبل التمثل الهندسي، الذي لم يصل الى حدود التجريد الرياضي، وبذلك تثبت العقول البشرية ، مهما توغلت في الاستنارة، ان ظلالا من اثار الانسان القديم ما زالت تسكننا، بل وتسكن حتى ارقى العقول تجريدا.
يتأرجح بندول تجربة هاني مظهر، وهو في بحثه التجريدي في ثلاثة اقانيم مختلطة ومتواشجة تماثل المراحل الكبرى في تحول العقل البشري نحو التجريد وهو ما فصله باشلار بعمق حينما شخصها بأنها: الحالة الملموسة ، حيث يتلهى العقل بالصورة الاولى للظاهرة، ثم الحالة الملموسة المجردة حيث يضيف العقل من عندياته الرسوم الهندسية مستندا في ذلك الى (البساطة)، واخيرا (الحالة المجردة) حيث يباشر العقل بمعالجة المعلومات المأخوذة طوعا من حدس الميدان الواقعي والمنفصلة طوعا عن التجربة المباشرة، فكان هاني مظهر يتنقل بيسر خلال هذه الاقانيم منذعقود.

الرسام هاشم تايه







هاشم تايه
مرة أخرى


تنــــــــــافـــــذ
البساطــــــة والقـــــــــــــــوة
في التكويــــــــــــــــن الخطــــــــــــــــي


هاشم تايه ، هو غير هاشم حنون ولكنهما معا من البصرة ، رسام متعفف ، لا يحب الشهرة ، بل قل لا يسعى إليها ، فجلّ ما يطمح إليه هو ان يعبر بالرسم ، وهذه عنده رسالة لا قبلها و لا بعدها ! ، كتبت عنه ثلاث مرات سابقة ، ولكني أجد نفسي مدفوعا للكتابة عنه رابعة ، فأن مرور الوقت يكشف للمتابع الأركولوجي طبقات خفية ، طبقة بعد أخرى ، وكل واحدة منها تقود مجرى الكتابة تجاه مسرب جديد آخر ، وبشكل يمكن الإدعاء معه ان تجربة متعددة الطبقات لابد وأن تتيح إمكانية كتابة متعددة المسارب.
في كل كتاباتي السابقة كنت أحاول ان اعكس توجها طوبولوجيا في دراسة التجارب الفنية التي تناولتها ، فكنت أحاول ان أضع دراسة التكوين (= البنية) هدفا لي ، وهو ما حاولته ، في دراستي هنا لأعمال الرسام هاشم تايه ، والتي سوف تقتصر على تلك الأعمال ذات البنية الكاليغرافية ، وهي قد تكون أعمالا بالألوان الزيتية ، ولكن بنيتها تتخندق مع الأعمال التخطيطية ، وكأن اللون فيها لم يتنافذ كفاية مع بناء اللوحة ، فبقيت بنيتها كاليغرافية تشي وكأنها تخطيط تمت إضافة اللون إليه ، في مرحلة لاحقة فلم تغير تلك الإضافة على طبيعة العمل شيئا ، وبذلك فنحن نعاملها وكأنها لوحة تخطيطية من وجهة النظر الطوبولوجية ، وسوف نقصر اهتمامنا على تكوينها الشكلي الكاليغرافي ، مع بعض الإهمال لمتيرياليتها ، وهذه الملاحظة الأخيرة لا تصح على الأعمال التخطيطية بالحبر الصيني ، فأن تناولنا لها يتضمن (المتيرياليتي) كون الخط الأسود هو الذي يبني اللوحة وحيدا ، فيغلق الأشكال ، ويردم الفراغان ويقوم بكل المهمات .
يقيم الرسام (= المخطِّـط هنا) هاشم تايه أعماله على تنافذ استعاري بين مستويي العمل لديه : البساطة و القوة ، والبساطة تعني ببساطة التخلص من الشوائب الزائدة في الشكل ، وهو توجه تقليلي يحاول الاكتفاء بأقل قدر من الخطوط الضرورية لبناء الشكل ، تماما مثلما استخلص (بيكاسو زبدة كتاب براساي المسمى (أشكال خطوطية جداريه Graffiti ) في فصل (ولادة الوجه) وهي تجميع لصور فوتوغرافية لوجوه نفّـذت من ثقبين أو ثلاثة ثقوب في جدار ، وقد درس بيكاسو هذه التخطيطات باهتمام بالغ وعلق بأنه كان يعمل وجوها كهذه ، وأن ثقبين هما رمز للوجه الإنساني ، وهو ما يكفي لأبرازه من غير تجسيد بهذه الوسائل البسيطة ، وكذلك أنجز بيكاسو تخطيطات لم تكلفه سوى خط خارجي وحيد كاف لأبراز كثافة وامتلاء الجسد الإنساني ، وهذا هو ما فعله هاشم تايه تماما ، فكما يصنع الصغار الوجه الإنساني من كلمة (ملح) التي يمطون نهاية الحاء لتشكل دائرة تلتف حول الميم لتلتقي مع رأس اللام ، فقد كان يطلق حركة نقطة (من مكان مجهول من الشكل) خط يصنع أشكالا طوبولوجيا مغلقة، ينتهي من حيث يبتدئ ، يحيط الشكل ، فيصنع بذلك شكلا مغلقا معزولا ، بالخط الخارجي عن بياض الورقة المحيط به ، تماما كما كان يصنع العراقيون القدامى جدارا محيطا لمعابدهم بهدف المحافظة على قداستها بعزلها عن المحيط الخارجي ، وكانوا يسمون ذلك الجدار كيسو ، خط لا بداية له هنا ولا نهاية ، يبتدئ من أية نقطة وفيها ينتهي لصنع أشكاله المغلقة ، خط لا انقطاع فيه ، ولا وجود لتعاقب ارسطوطاليسي من البداية مرورا بالوسط وانتهاء بالنهاية ، هو زمن متعاقب مستمر ابدي لا ينتهي ، فلا وجود إذن لزمان يمكن ان نؤرخ له بتحرك النقطة ، وكأنما انهت الحركة الدائرية للنقطة البعد الزماني الذي يستوجب تسجيلا للتطور الخطي.
يتجسد البعد الآخر للتكوين (= القوة) في جرأة الخط ، أو جرأة النقطة التي يبدو أنها تعرف مسبقا خط سيرها ، لذا تترك أثرا لها خطا قويا محفورا على بياض الورقة ، يمتلك حدة واضحة ، خط يمتلك ثقة ومقدرة على فصل مساحتين من نفس اللون (=الأبيض) ، لذا فهو خط حقيقي يختلف عن المحيطات الكفافية الوهمية التي تفصل مساحتين لونيتين مختلفتين عن بعضهما ، وذلك راجع الى ان التكوين الخطي تصنعه خطوط حقيقية (محفورة) على بياض الورقة يصنعها المداد الأسود الفاحم.



هاشم تايه مرة أخرى


تنافـــــذ
البساطــــــة والقـــــــــــــــوة
في التكويــــــــــــــــن الخطــــــــــــــــي


هاشم تايه ، هو غير هاشم حنون ولكنهما معا من البصرة ، رسام متعفف ، لا يحب الشهرة ، بل قل لا يسعى إليها ، فجلّ ما يطمح إليه هو ان يعبر بالرسم ، وهذه عنده رسالة لا قبلها و لا بعدها ! ، كتبت عنه ثلاث مرات سابقة ، ولكني أجد نفسي مدفوعا للكتابة عنه رابعة ، فأن مرور الوقت يكشف للمتابع الأركولوجي طبقات خفية ، طبقة بعد أخرى ، وكل واحدة منها تقود مجرى الكتابة تجاه مسرب جديد آخر ، وبشكل يمكن الإدعاء معه ان تجربة متعددة الطبقات لابد وأن تتيح إمكانية كتابة متعددة المسارب.
في كل كتاباتي السابقة كنت أحاول ان اعكس توجها طوبولوجيا في دراسة التجارب الفنية التي تناولتها ، فكنت أحاول ان أضع دراسة التكوين (= البنية) هدفا لي ، وهو ما حاولته ، في دراستي هنا لأعمال الرسام هاشم تايه ، والتي سوف تقتصر على تلك الأعمال ذات البنية الكاليغرافية ، وهي قد تكون أعمالا بالألوان الزيتية ، ولكن بنيتها تتخندق مع الأعمال التخطيطية ، وكأن اللون فيها لم يتنافذ كفاية مع بناء اللوحة ، فبقيت بنيتها كاليغرافية تشي وكأنها تخطيط تمت إضافة اللون إليه ، في مرحلة لاحقة فلم تغير تلك الإضافة على طبيعة العمل شيئا ، وبذلك فنحن نعاملها وكأنها لوحة تخطيطية من وجهة النظر الطوبولوجية ، وسوف نقصر اهتمامنا على تكوينها الشكلي الكاليغرافي ، مع بعض الإهمال لمتيرياليتها ، وهذه الملاحظة الأخيرة لا تصح على الأعمال التخطيطية بالحبر الصيني ، فأن تناولنا لها يتضمن (المتيرياليتي) كون الخط الأسود هو الذي يبني اللوحة وحيدا ، فيغلق الأشكال ، ويردم الفراغان ويقوم بكل المهمات .
يقيم الرسام (= المخطِّـط هنا) هاشم تايه أعماله على تنافذ استعاري بين مستويي العمل لديه : البساطة و القوة ، والبساطة تعني ببساطة التخلص من الشوائب الزائدة في الشكل ، وهو توجه تقليلي يحاول الاكتفاء بأقل قدر من الخطوط الضرورية لبناء الشكل ، تماما مثلما استخلص (بيكاسو زبدة كتاب براساي المسمى (أشكال خطوطية جداريه Graffiti ) في فصل (ولادة الوجه) وهي تجميع لصور فوتوغرافية لوجوه نفّـذت من ثقبين أو ثلاثة ثقوب في جدار ، وقد درس بيكاسو هذه التخطيطات باهتمام بالغ وعلق بأنه كان يعمل وجوها كهذه ، وأن ثقبين هما رمز للوجه الإنساني ، وهو ما يكفي لأبرازه من غير تجسيد بهذه الوسائل البسيطة ، وكذلك أنجز بيكاسو تخطيطات لم تكلفه سوى خط خارجي وحيد كاف لأبراز كثافة وامتلاء الجسد الإنساني ، وهذا هو ما فعله هاشم تايه تماما ، فكما يصنع الصغار الوجه الإنساني من كلمة (ملح) التي يمطون نهاية الحاء لتشكل دائرة تلتف حول الميم لتلتقي مع رأس اللام ، فقد كان يطلق حركة نقطة (من مكان مجهول من الشكل) خط يصنع أشكالا طوبولوجيا مغلقة، ينتهي من حيث يبتدئ ، يحيط الشكل ، فيصنع بذلك شكلا مغلقا معزولا ، بالخط الخارجي عن بياض الورقة المحيط به ، تماما كما كان يصنع العراقيون القدامى جدارا محيطا لمعابدهم بهدف المحافظة على قداستها بعزلها عن المحيط الخارجي ، وكانوا يسمون ذلك الجدار كيسو ، خط لا بداية له هنا ولا نهاية ، يبتدئ من أية نقطة وفيها ينتهي لصنع أشكاله المغلقة ، خط لا انقطاع فيه ، ولا وجود لتعاقب ارسطوطاليسي من البداية مرورا بالوسط وانتهاء بالنهاية ، هو زمن متعاقب مستمر ابدي لا ينتهي ، فلا وجود إذن لزمان يمكن ان نؤرخ له بتحرك النقطة ، وكأنما انهت الحركة الدائرية للنقطة البعد الزماني الذي يستوجب تسجيلا للتطور الخطي.
يتجسد البعد الآخر للتكوين (= القوة) في جرأة الخط ، أو جرأة النقطة التي يبدو أنها تعرف مسبقا خط سيرها ، لذا تترك أثرا لها خطا قويا محفورا على بياض الورقة ، يمتلك حدة واضحة ، خط يمتلك ثقة ومقدرة على فصل مساحتين من نفس اللون (=الأبيض) ، لذا فهو خط حقيقي يختلف عن المحيطات الكفافية الوهمية التي تفصل مساحتين لونيتين مختلفتين عن بعضهما ، وذلك راجع الى ان التكوين الخطي تصنعه خطوط حقيقية (محفورة) على بياض الورقة يصنعها المداد الأسود الفاحم.

الاثنين، 11 أغسطس 2008

هيمنة خطاب عصر النهضة العربية على الفن التشكيلي





هيمنة خطاب عصر النهضة العربية

على الفن التشكيلي العراقي ..


كانت الإشكالية الحضارية لعصر النهضة العربية والخطاب الذي تمخض عنها قد اعتمدت (على معادلة طرفاها: التراث العربي الإسلامي، من جهة، والتراث الأوربي الغربي الذي تم تركيزه في الكشوفات العلمية وثمارها التكنولوجية من جهة أخرى.. وكان التوفيق بين طرفي هذه المعادلة هو أساس مشروع النهضة العربية) إلا أن النتيجة النهائية التي ترسبت هي تبلور خطاب عصر النهضة في موقف تعامل نفعي مع (الآخر) ، تعامل (يفصل بين التكنولوجيا وبين الفكر الذي أنتجها، فيكتفي باستيراد التكنولوجيا لاعنا أساسها العلمي) ، وتضمّـن شكل الموقف من الآخر تناقضا فاضحا باعتباره (غازيا) و(معلما) في الوقت ذاته: غازيا فيما يتعلق بالمستوى الفكري، ومعلّـما فيما يتعلق بالمستوى العلمي أو بصفة أدق المستوى التكنولوجي . فتولد حيال ذلك (موقف) هو رد فعل يرفض (الغزو الفكري) ، ويتقبل المخترعات العلمية وما يتعلق بها من معارف.





جماعة بغداد وادلجة الفنون التشكيلية
لقد انسحب هذا الموقف الأيديولوجي على كل المجالات الإبداعية في الثقافة العربية التي سعى الخطاب الرسمي الى تطويعها وتذويبها باعتبارها جزءا من آليته ، فكان الشعر العربي مطواعا ، اكثر من غيره بسبب بنيته الأيديولوجية اللغوية أساسا ، ولكنه مع ذلك تقبّل بعض التغييرات الأوروبية، بتحوله نحو توليفة تجمع الشعر الحر الأوربي وجزء من العروض الخليلي أي نظام التفعيلة ولكن دون الشطرين والقافية ، وهو الشكل المعروف في نماذج السياب ونازك الملائكة وغيرهما . وكما خضع الشكل لمبدا الموازنة بين التراث والمعاصرة خضعت اغراضه الحديثة كذلك. وتم تغيير بنية الحكاية التقليدية الى قصة قصيرة و رواية ولو بشكلها الاجتماعي الفج.



الفن التشكيلي و الأدلجة
لقد كانت الفنون التشكيلية ومنها فن الرسم ، مجالا عصيا على الانضواء تحت خيمة الأيديولوجي وذلك بسبب بنيته غير اللغوية وبالتالي العصية على الأدلجة أولا ، وثانيا بسبب التغيرات الجوهرية والدرامية المتسارعة التي إصابته في أوربا خلال فترة وجيزة عادلت قرونا من التحولات ، وهو ما جعله عسيرا على الهضم من قبل الكثيرين وقتذاك. يشرح شاكر حسن آل سعيد الظروف الأيديولوجمالية التي كانت تستند عليها جماعة بغداد للفن الحديث ، ويستند عليها الفنانون العائدون لتوّهم من أوربا ، بعد ان كانوا قد درسوا الفن هناك ، فيقول "تبلورت الأجواء ، ونضجت ... مسؤولية التعبير بالرسم على غرار ما كان يحدث بالشعر العربي الحديث ، ما حدث للشعر سيحدث للفن مع (جماعة بغداد للفن الحديث) بعد ان نضجت فكرة تأسيسها بين عامي 1950 و 1951… كنا نريد ان نوضح للفنان العراقي عامة ، ولأنفسنا كجماعة فنية خاصة ، بأن استلهامنا للتراث في الفن هو المنطلق الأساسي للوصول بأساليب حديثة إلى الرؤية الحضارية" ويواصل تحديد الهدف بدقة بأنه (التعبير المحلي بتقنية حديثة) وشاكر حسن هو الصوت الأهم في كتابة البيان التاسيسي للجماعة.
لقد بنت الإشكالية الحضارية لعصر النهضة خطابها في حقل الإبداع التشكيلي على نفس الموضوعة أي المحافظة على الموازنة المقدسة بين التراث والمعاصرة ، فتم قبول الجانب التكنولوجي ، حيث شروط اللوحة المسندية ، والألوان الزيتية التي تصنع ، حتى وقتنا الحاضر، في أوربا، فكان ذلك سببا لحل الارتباط بين صفات الرسام ـ المزوق ـ الخطاط ، في نفس الوقت ، لصالح الرسام المتخصص في تكنيك الرسم بالألوان الزيتية بصفة أساس ، بينما تم رفض كم كبير من معطيات الحداثة في الفن التشكيلي والتي قد تشكل خطرا على التراث تطبيقا وتنظيرا.



التوازن المقدس
ان أهم معضلة واجهت الرعيل الأول من دارسي الفن في أوربا هو : كيف نجد سبيلنا الذي يضمن إمكانية المحافظة على التوازن بين التراث والمعاصرة ؟ ، وهما قيمتان غير جماليتين، و بعد ان حققت المعاصرة أولى خطواتها بقبول شروط (تكنولوجيا) اللوحة المسندية والألوان الزيتية وبعض من الرؤى التعبيرية التجريدية فلم تكن خطيرة ، حيث لم تكن تتعدى حدودها لتصل الى حد المساس بالشكل التشخيصي العربي الإسلامي في نماذجه النمطية كالواسطي مثلا .



جواد سليم راس الحربة
لقد واجه جواد سليم هذه المعضلة في الميدان التطبيقي ( بينما تولى غيره مشاكلها التنظيرية) فوجد نفسه أمام مشكلتين : كونه (رساما ـ نحاتا) في الوقت ذاته ، الأمر الذي ألقى عليه أعباء إضافية لم يتعرض لها الآخرون الذين تخصصوا في أحد الفنين دون الآخر ، ففي فن الرسم تم الحل بالعودة إلى الواسطي مخلوطا بتأثيرات من بيكاسو و ماتيس (لوحات : لورنا ، طفلان يأكلان الرقي ، حكاية تتضمن مكر النساء وان كيدهن عظيم … بينما استعصم عليه الأمر في النحت ، أولا بسبب الافتقار إلى نموذج عربي إسلامي للنحت ، مما جعل نحاتا مهما مثل محمود مختار ، في مصر ، يتخلى عن إيجاد حل لهذه المعضلة والاتجاه إلى مزاوجة أساليب النحت لعصر النهضة الأوربية وعصوره القديمة مع بعض سمات النحت الفرعونية ، بينما كانت المعضلة عند جواد سليم اشد تعقيدا ، فقد كان فهمه للتراث لا يتعدى تحقيق السمات المحلية بمعانيها الضيقة التي تعني الأجواء البغدادية‍‍‍‍‍‍‍ ‍‍‍‍! ، وهو أمر عسير بما فيه الكفاية. لقد كانت سطوة النحات الإنجليزي هنري مور عليه طاغية حينما لم يكن يرغب في نسخ الواقع في النحت المجسم (منحوتات الأمومة مثلا) ، لذا توجب عليه (إدخال) الواسطي إلى النحت ‍‍! لكن الحل كان بمنتهى السذاجة أحيانا ولم يكن يتعدى اكثر من الاكتفاء بإدخال شكل شبيه بالهلال ! للموازنة بين المعاصرة والتراث !! . لقد وجد جواد نفسه ، ربما أمام اصعب مهمة واجهته في حياته ، وهو يهم بإنجاز نصب الحرية ، وقد تم حلها بالتخلي عن النحت المجسم الى استخدام النحت الناتئ (الريليف) ، الذي هو برأيي مرحلة وسطى بين الرسم والنحت ، وربما بمعنى أدق (رسم بالحجر) ، أي تم حل معضلة تخص النحت بالعودة الى الرسم ، بالعودة الى الواسطي ، لقد كان اكتشاف الواسطي إذن مفتاحا سحريا لكل الحلول !!.



النصوص الأولى والهوامش
"ان آلية إنتاج الخطاب التشكيلي قد لا تختلف عن آلية إنتاج النصوص ومن ثم إنتاج المعرفة على أساس تلك النصوص ، فحينما تنبع سلطة إنتاج الخطاب التشكيلي من الواقع أي حين نعتبر الرسم تشبيها ونقلا لموجودات الواقع التي تكون بمثابة (النصوص الأولى التي تنتج على أساسها الهوامش)، عندها يبدأ الرسم بإنتاج أعمال تشبيهية فتـتسلل البنى الحكائية - وهي اعتبارات خارج جمالية وذات طبيعة أيديولوجية - وتبدأ بإزاحة البنى الجمالية" ، وقد أدى التطور الخديج وضيق الأفق و ضآلة موهبة بعض الرسامين أمام الآخر(=جواد سليم) إلى جعل خطابات الرسامين السابقين لهم إبداعيا (= جواد سليم) هي (النصوص الأولى) التي يستمدون (نصوصهم) منها ، بل أصبحت أحيانا الإطار المرجعي الوحيد مما أدى إلى إصابة المنجز التشكيلي بحالة من التناسخ الداخلي ومن ثم التماثل المدرسي العقيم للتجارب ، فقد تلقف الفنانون المعاصرون لجواد سليم حلوله جاهزة فوُلِد بذلك جيش من المقلدين الذين اتخذوا منجز جواد سليم (نصوصا أولى) ونهائية.
لقد حرص الفنانون في ذلك الوقت على إجراء تحويرات ضرورية طفيفة للمحافظة على هامش (الأسلوب الشخصي) ، فلقد طور حافظ الدروبي لنفسه توليفة من الأجواء والأزقة البغدادية مخلوطة بالتكعيبية التحليلية بأشكالها البدائية ، وكذلك فعل إسماعيل الشيخلي حين كرس نفسه لتصوير المزارات والنسوة اللواتي يفترشن الأرض مرتدين عباءاتهن ، فكان يراوح في ذلك ، مقتربا تارة من حلول جواد سليم (أشكاله) وتارة باتجاه التجريد حيث تتحول الأشكال الى ضربات لونية تحتفظ قدر الامكان بروحية المكان العراقي ، وطور كاظم حيدر حلولا كانت تعد ثورية في ذلك الوقت وشكلت نموذجا لجيل الستينيات ولكنه ، مع ذلك ، ظل أسير موضوعات التراث والبطولة التي كانت تستمد معينها من أجواء تأثيرات الخامس من حزيران وتداعياتها على الوضع العربي ، بينما ظل كثير من الرسامين يرزحون تحت وطأة منجز جواد سليم ، منهم ليس على سبيل الحصر: نزيهة سليم ، خالد الرحال، محمد غني حكمت ، وحتى نهاية حياتهم .


الارتداد الواسع
لقد عمد الرسامون ، الذين كانوا يطمحون الى امتلاك أسلوب شخصي ولم يتقبلوا فكرة اللجوء الى توليفات تتقبل جزء كبيرا من حلول (=أشكال) جواد سليم ، عمدوا الى الارتداد عن الفكرة برمتها : فقد تحول نقدا ورسما شاكر حسن آل سعيد (في نهاية الخمسينات لينحاز بصورة حازمة الى النزعة التجريدية ، لكي تتمثل خصوصا في التجريدية اللاشكلية) أو البعد الواحد ، بعد ان (… توقف قليلا في تلك السنوات أمام الفنين السومري والبابلي في لوحتي (شخصان) و (الفلاحون والقمر) أطال التوقف أمام الروح الشعبية كم تتمثل في (ألف ليلة وليلة) ليرسخ محاولاته الأسلوبية التي تجمع بين المؤثرات الحديثة في الفن الأوربي … والمؤثرات العراقية والعربية) كما يذكر شربل داغر ، وارتد فائق حسن سريعا عن محاولاته رسم الأجواء البغدادية باسلوب قريب من اجواء مدرسة بغداد، وطور لنفسه أسلوبا انطباعيا تماما وذا سمات شخصية متفردة ، من بين كل الرسامين العراقيين في رسم الطبيعة والبادية والفرسان والخيول ، ساعده في ذلك توفره على تقنية لونية عالية لم تتوفر لغيره ، بينما اتجه جميل حمودي ومديحة عمر الى ابتكار توليفة حروفية زخرفية باعتبارها (النسخة العربية) من التجريد ، وتخلى كاظم حيدر عن موضوعاته السابقة ، فشكل بذلك رأس الحربة في التحول اللاحق ، فلم يدم الأمر طويلا، فقد رفض جيل الستينات من الرسامين الطليعيين (علي طالب وصالح الجميعي و فايق حسين وغيرهم) هذه الفكرة الاتباعية ، وتبعهم ضياء العزاوي اخيرا، كما رفضوا ، وهذا هو الأمر الحاسم ، فكرة هيمنة الأيديولوجي على الرسم ، فكانوا أجرأ بما لا يقاس من نقاد الفن التشكيلي الذين ظلوا خاضعين لهيمنة الفهم الرسمي لمهمة الرسم والفن والإبداع عموما ، وشكلوا جزء من خطابه فشكلوا عقبة ابستمولوجية كبلت الرسم العراقي ردحا طويلا من الزمن .
الشاعر مجيد الموسوي


هندســـة اللــــــون ...
والمكــــــان ....


((قصيدة ))

حمامة خضراءْ
حطت
على
قلبي
مبتلة بالحزن والبكاءْ
حمامة بيضاءْ
تخافقت
كنجمة
وحيدة ....
ثم
اختفت
في
غابة
السماء
حمامة سوداء
تناوحت كالريح في العراءْ

ورفرفت
على
بحيرة المساءْ
فخلفت
في
مائها
خيطاً
من الدماء !

البصرة
خريف 1998
مجيد الموسوي

سبق لنا ان كتبنا عن الدلالة التعبيرية للون عند شاعرين من البصرة راحلين هما : عبد الخالق محمود ومصطفى عبد الله في مقالين منفصلين في صحيفتي الزمان ( اللندنية ) والاخبار (البصرية ) وكنا قد تلمسنا وقتذاك أواصر قوية بين تجارب هذين الشاعرين وشاعر مجايل وصديق لهما هو مجيد الموسوي فيما يخص السمات التشكيلية للقصيدة وخاصة ما يتعلق منها باستخدام عنصر اللون ودلالاته وتحولاته في القصيدة , هذا اولاً , ومن ثم وجدنا صلة اخرى في اسلوب الثلاثة حينما يرثون انفسهم وهم احياء فكتبت موضوعين منفصلين يتعلقان بثيمة (( رثاء النفس من خلال رثاء الآخر )) وتناولت فيهما تجربتي الشاعرين عبدالخالق محمود ومجيد الموسوي منذ ذلك الوقت بدأت تهيمن على تفكيري حقيقة بدأت تلقي بثقلها عليّ وهي ان هؤلاء الشعراء الثلاثة الاصدقاء تسمهم سمة مشتركة على الرغم من الطابع الذي تتفرد به كل تجربة من تجاربهم عن الاخرى .
ان النص الذي تعاينه الآن للشاعر مجيد الموسوي قد اهداه للشاعر الراحل مصطفى عبد الله ! وبذلك فقد تكرس احساسنا بان ( هندسة ) الالوان في جسد قصيدة مصطفى عبد الله والتي تلمستها لديه في مقالي الذي اشرت اليه , كان قد تلمسه مجيد الموسوي هو الآخر , سواء بطريقة واعية ( ثقافية ) او بطريقة لا شعورية , حيث يكون قد تحسس سطوة الطاقة التعبيرية للالوان لدى ذلك الشاعر فاهداه قصيدته هذه لذلك السبب , مع اقرارنا طبعاً ان هذا افتراض لا نملك عليه دليلاً ! , ولكننا نشعر به بقوة . منذ العنوان يصطنع مجيد الموسوي الحياد فيبدو العنوان محايداً لا لون له ويشير لاستخدام عين الكاميرا فقط بل وكأنه يحيل القارئ الى نص القصيدة دونما حاجة للعنونة , وهي آلية في العنونة يستخدمها الرسامون التشكيليون ( موضوع 1 , موضوع 2 , .... الخ ) حيث يكون العنوان امراً طارئاً على اللوحة كونه يقع في المنطقة ( خارج بصرية ) . لقد جاء نص مجيد الموسوي ( قصيدة ) مكتضاً بالالوان وكأنه باليتة رسام , بل لوحة لرسام ملون بارع ينجز مشهداً خلوياً يتوسطه بشكل عرضي خط الافق , وذلك الخط الذي أدمنه طويلاً الرسام رافع الناصري فكان يؤطر بواسطته جملة معطيات دلالية اهمها الفعلان ( حطت ) و ( رفرفت ) اللذان يتخذان مكانيهما فوق خط الافق وتحته
على التوالي , بينما تتخذ الالوان مجموعتين متقابلتين , قد تكونان احياناً متنافرتين : ( خضراء + بيضاء ) مقابل مجموعة مقابلة ( سوداء+ حمراء ) وهما يقدمان دلالتين متقابلتين كذلك : دلالة الحياة مقابل دلالة الموت , وان ما يوحد تلك الالوان رغم تعارضاتها الدلالية , خيط من الحزن الشفيف ابتدأ منذ مطلع القصيدة ( مبتلة بالحزن والبكاء ) و ( تناوحت ) فاصطبغت كامل القصيدة به .
تنقسم اماكن الفعل هي الاخرى الى زمرتين : زمرة علوية فوق خط الافق ( غابة السماء ) وسفلية تحت خط الافق ( بحيرة المساء ) وبذلك يكرس مجيد الموسوي دلالات تأثيث المكان واستثمار بياض الصفحة بشكل دال , مستنداً على خط الافق كون الحدود الفاصلة ليست نقاطاً بين مكانين , بل وبين عالمين متواجهين دائماً . نعود أخيراً لنؤكد ان تناول نص مجيد الموسوي بعمق يكشف عن هندسة خفية لتحولات اللون مشابهة لتلك التي وجدتها عند الشاعرين مصطفى عبد الله و عبدالخالق محمود وخاصة عند الاخير في قصيدة (الوان الظهيرة المائية ) , فقد كانت تحولات لون الحمامة عند مجيد الموسوي في ( قصيدة ) قد بدأ ( بحمامة خضراء ... مبتلة بالحزن والبكاء ) , ثم ( حمامة بيضاء ) .. ( وحيدة ) ضاعت ( في غابة السماء ) , بينما كان تحولها الى ( حمامة سوداء ) ... ( تناوحت كالريح ) وهي ترفرف على ( بحيرة المساء ) فكان ما تخلف عناه ليس سوى الموت ( = خيط من الدماء ! ) , وبذلك يشكل التحول اللوني للكائن قوس قزح ذات طابع دلالي وسايكولوجي يبتدأ باللون الاخضر ذي الدلالات المفارقة للآخرين ( = الحزنة والبكاء ) , ثم الابيض
(= الوحدة ) , فالاسود ( = النواح ) , واخيراً الاحمر ( = الدماء = الموت ) .

عيد البوقات.. مناحات تموز


الشاعر حسين عبد اللطيف..

عيد البوقات.. مناحات تموز
الغـــــــلاف بوابــــــــــة للنـــــــص

إن الاشتغال من خلال اللغة هو إحدى نعم الكتابة النقدية التشكيلية ومآسيها في الوقت ذاته ، وهو أمر يتلمسه النقاد المهتمون بالفن التشكيلي وبالشعر معا ، فقد أكد الناقد التشكيلي سهيل سامي نادر مرة ((أن لا وجود للنقد الفني بوصفه حركة مستقلة ، انه نص يختلط بنصوص أخرى .. انه لا ينفصل عن التقاليد الأدبية ، فخطته أدبية ، أوصافه وتعابيره ، و لا سيما لغته كلها ، وطريقته في الحكم)). ولأننا كنا قد بدأنا علاقتنا بالثقافة ، مثل آلاف قبلنا ، بمحاولات في كتابة الشعر ، وقراءته ، باعتباره حاضنة أولية للثقافة ، فقد وجدنا في أنفسنا هوى لقراءة الشعر ، وقراءة النقد الذي ينشر عنه ، ودراسة آليات ذلك النقد ، إلا أن الصلة الوثيقة التي تربطنا بالرسم ونقد الرسم جعلتنا نبحث ، معظم الوقت ، في تخوم ، العلاقة بين هذين النمطين الإبداعيين ، رغم انهما من طبيعتين مختلفتين: طبيعة لغوية ، وأخرى بصرية ، إلا أني اشعر أننا نتلمس وشائجهما قوية بشكل محسوس ، وهذه هي وجهة نظرنا التي نزعم أنها خبرت كلا الفنين بدرجة لا بأس بها ، وهو ما يجعلنا ، وما زلنا نحاول التعامل مع الجوانب البصرية للقصيدة ، أو ما تسميه هناء مال الله (العناصر التكوينية للوحة) بشكل يجعلها أمامنا وكأنها لوحة ، باحثين فيها عن الجوانب البصرية ، وعن ما يربطها بالرسم من الناحية البنائية.
إن أهم التزاماتنا التي نحرص على الوفاء لها ، هي أن لا نقسر النص أو نقوّله ليتسع لرؤانا المسبقة بل نترك للنص حرية أن يقودنا الى حيث شاء (أي البحث عما يمكن أن يقوله مما هو غير متاح على سطحه ومما لا تعطيه أبنيته اللفظية للقراءة الأولى رغم وجوده ضمن جوهره المتخفي وراء ظاهره) كما يقول الناقد الدكتور حاتم الصكر ، وبذلك نحن نمتثل لما يبثه النص باعتباره الوثيقة الوحيدة المطروحة للقراءة ومن ثم التأويل هنا ، فتكمن مركزية القراءة في النصوص، التي هي تعبير لا يقتصر على (المدونة) اللغوية ، فأن (نص كتاب) ديوان نار القطرب يتشكل ، برأينا من : صورة الغلاف ولونه ، و العنوان ، وعناوين القصائد ونصوصها ، ثم التصديرات والإهداءات والهوامش.
وان كان نقاد الأدب يبتدئون بالعنوان ، باعتباره بوابة النص ، وهو هنا يتوفر على بنية صورية ورمزية دالة بعمق ، فنحن نبتدأ مما يهمله أولئك النقاد ، وهو الغلاف ، باعتباره بوابة الديوان القرائية الأهم ، ونحن نزعم إننا اكثر معرفة بأهمية الغلاف باعتباره دالة قرائية مهمة وبؤرة لامة، بسبب كوننا من قام بتصميم ورسم الغلاف، وهو تخطيط بالحبر الصيني، مصورا بطريقة الصورة السلبية (النيجاتيف)، ويمثل واحدا من مجموعة من اقدم الدمى والتماثيل الحجرية المجسمة العراقية القديمة التي ارتفعت فوق مستوى الحرفة الصرف الى مرتبة الفن الحقيقي، ومنها مجموعة من التماثيل الكلسية بحالة غير جيدة، وقد وصلت إلينا من الوركاء، ولم تلاق في حينه أي اهتمام لكونها مهشمة، فاعتبرت فرثية خطأ بسبب الموقع الذي وجدت فيه لذا فقد استبعدت من تاريخ الفن التشكيلي السومري ، وان واحدا منها يمكن تمييزه _ على الرغم من حالته المحطمة – كرجل ذي لحية كثة غريبة على شكل قرص تغطي ذقنه وخديه، وهو يعود الى عصر فجر التاريخ في بلاد سومر، وان حال شعر الرأس واللحية يوحي بأنه شعر أمير، لأن الإكليل السميك هو لباس الرأس لدى الأمراء في عصري الطبقة الرابعة في الوركاء وجمدة نصر. وقد اعتبره الدكتور فوزي رشيد تمثالا للإله تموز في مقال له في مجلة (الرواق) التي كانت مهتمة بالفن والنقد التشكيليين، وهو النموذج الذي كان شكل مرجعيتنا البصرية والدلالية، عند إنجازنا الغلاف.
نحن نعتقد أن الشاعر حسين عبد اللطيف قد بث في ثنايا نصه (ديوان نار القطرب) شظايا من المناحات التي يطلقها الشاعر بكاء على تموز (=الشاعر ذاته) ، وبذلك يتحول هذا الديوان الى ما يشبه المراثي الذاتية مبثوثة في عُقَد من الديوان ، منها الهامش الأهم الذي وضعه الشاعر لقصيدته (عيد البوقات) في نهاية الديوان ، ويقول فيه : ((يرى السير جيمس فريزر ، صاحب (الغصن الذهبي) إن تموز يمثل حياة النبات ورمزه هو القمح. ويستدل على ذلك بنص او مقتطف يأخذه عن كاتب عربي من القرن العاشر – دون تسمية الكاتب او المصدر – يصف فيه الطقوس التي كان أهل (حران) يمارسونها في شهر تموز .. لألههم (تاوز) .. والكاتب العربي هو ابن النديم صاحب كتاب (الفهرست) الذي يقتبس منه (فريزر) هذا النص: في النصف الأول منه عيد البوقات – يعني النساء الباكيات – وهو عيد يعمل (لتاوز) أو (تاعوز) الإله .. وتبكي فيه النساء عليه ، كيف قتله ربه وطحن عظامه في (الرحى) ثم ذرها في الرياح ، والنساء اللواتي يندبنه في هذا العيد لا يأكلن شيئا طحن في رحى بل حنطة منقوعة وحمصا وتمرا أو زبيبا وما أشبه). وكلمة (البوقات) أما محرفة عن (بكاة) جمع باك ، أو أنها تعني الآلات الموسيقية التي ربما كانت تصاحب النادبات في مثل هذه الطقوس. وهي جمع ما لا يعقل قيس على ما سمع عن العرب كحمامات وسرادقات وسجلات و أجازه ابن جني في (المحتسب 2/153) وابن عصفور في (شرح الجمل 1/149). ومن عاب جمعه بالألف والتاء لأنه اسم جنس مذكر ، الحريري في (درة الغواص ج 1) مشيرا الى بيت المتنبي :
إذا كان بعض الناس سيفا لدولة ففي الناس بوقات لها وطبول
وتنظر قصيدتي السياب (أم البروم) و (ها .. ها .. هوه) .. )).
إن ما تسميه هناء مال الله (الوحدات الصغرى) التي يبني الرسام لوحته منها وهي تسميها (العناصر التكوينية للوحة) نجدها عند حسين عبد اللطيف مستمدة من مناحات تموز: الحنطة والريح وحبال القنب والكثبان والنار والأفعى بتنويعاتها المختلفة. فقد استعارها حسين عبد اللطيف ، في قصيدته المهمة (في عيد البوقات) ، كما استعرت في رسمي لصورة الغلاف هيئة تلك الدمى موثقة الأيدي بالحبال :
(قدماي مفلطحتان وفمي أعجف/ويداي ، يداي /بحبال القنب موثقتان /آدم /ذا وسط عراء منبوذْ /غربانٌ / وملائكة سودْ / تتضاحك / وتعابث / أعضاءه))
(في عيد البوقات)
وآدم قد تعني هنا (ابن آدم) وهو يقصد به الشاعر ذاته (=الإله تموز) الموثق بالحبال وهو الشاعر ذاته الذي أوثقت حبال الحياة أيديه (=مصيره) ، وهي تقتاده الى حيث لا يشاء. أي أنه ذاته التمثال موثق اليدين (=تموز) .

((وقلتُ : أأنتِ ! / فحلي إذن / من وثاقي)) (وثاق)
انه يبني قصيدته هذه (في عيد البوقات) من ثلاثة مقاطع ، حيث تمتثل للبناء الكلاسيكي (البداية – الوسط – النهاية) ، حيث تهيمن على المقطع الأوسط لفظة (المخلب) وزمجرة النمر ، فأي عالم متوحش قد القي فيه الشاعر. بينما يأتي المقطع الأخير (النهاية) وهو (خلاصة الحكمة) في القصيدة، حيث يتماهى الشاعر تماما في مناحة تموز :
((لم آكل (خرشنة) / أو قمحا مبلولا / ما رجّلتُ الشَعْرَ بزيت / ما خبأتُ دموعي / في خابيةٍ / في قبو البيت / بل .. في (عيد البوقات) بكيتْ))
وهو يؤكد على شكل مصيره الذي وصّفه في المقطع الأول الذي ذكرنا:
((وأنا مركوز في نقطة / يتجمهر حولي الناس / لم يأتَِ القافزُ / فوق الظلّ / ولم يعرفْ وجهي الحراسْ)) (أناشيد الاوبانشياد سفينا سيفاترا)
وبذلك فهو يزيح لسان النص ليفرض هيمنته على لسان الخطاب ، رغم المصير المحزن الذي يصوره.
إن أهم اللقى التي يؤكد حسين عبد اللطيف فقدانها من (يديه) هي الحنطة ، وهي رمز من رموز تموز:
((لا تظلموا الحبّة / في ذمة الكثبان))

(أدراج ادراج الرياح)

((وها أنا / ها أنا / لا حنطة / في يدي / ولا / على / شكواي / عندي شهود)
(لا حنطة في يدي – عندليب الأسى)
((يضن بي الطير حبة قمح))
(الدريئة)

((اضربْ / بعصاك .. / فيافي الأرض / لتجدْ / في حبة حنطة / او حبة رملٍ / مدفونا / قلبي))
(قلبي من ذهب إبريز)
وفي قصيدته (ودائع) ، التي درستها سابقا بصورة مستقلة ، وهي خطاب موجه الى امرأة هي (خ) ، التي ثبت لها إهداء القصيدة في ديوانه القادم (لم يعد يجدي النظر) ، وهي عنده عشتار التي تسببت في نزول تموز رهينة في العالم الآخر. ويتتبع حسين عبد اللطيف الأسطورة منذ البذار ((احملي قمحنا وانثريه .. في وهاد القرى)) ، وهو تحقق الموت الأول للبذرة، ((هدهد ميت / في الخزانة بين الثياب / وردةٌ .. وتصاوير مغبرةٌ و .. لقى)) ، وكلها تعاني الموت مادامت في خزانة ، ثم يأتي النماء المعمد بالتضحية ((ودمي قطرات)) ، ومن خلال المطر والحياة الجديدة ((فارسلي المطرا / علنا نمنح الشجرا / لونه الأخضرا / وننال الثمار)) ، التي ستعاود الموت ، ثم الحياة وهكذا.
يدعو الشاعر الناس الى التجمهر حوله ليريهم ما عنده ، ربما هي (نار القطرب) ذاتها التي أتخذها عنوانا للقيته الأهم (النار) :
((اقبلوا / اقبلوا / فالنهار انتصفْ / اقبلوا / اقبلوا)) (سوق)
انه حسين عبد اللطيف ، الشاعر – الإنسان الذي ما زال يشعر بآثام آدم متسربة إليه عبر:
((حقيقة عارية / أم أنها : أفعى / جائية .. تسعى / إلي بالتفاح!))
(قناع)
انه يبحث عن مخرج له من هذه المحنة الوجودية :
((في قبضة العزلة / ابحث عن مصباح / ابحث عن مفتاح))
(قناع)
لكنه أيضا يمارس فعلا ماسوشيا مناقضا له حين يلف حباله كالشرنقة لينبه نفسه التي تختلق الأعذار دائما:
((ألف حبلا وحبلْ / القي على الغارب / أقول : يا نفسي / أخيفها من سطوة الإبريق والكرسي / إياك .. يا نفسي / إياك أن تجلسي .. يا نفسي / أراه مثقوبا هو الكرسي / لكنها .. نفسي جريا على عادتها .. تعزو / رداءة الحال الى الطقس!))
(قناع)
وتبقى الخطيئة ، دائما ، تلاحق حسين عبد اللطيف لتخرجه من جنة الشعر الى جحيم هذه الحياة :
((كانت ها هنا أفعى / وكان القمح / مطحونا / وتلك النار في التنور / كانت / لا تني / تهذي / هي الأخرى))
(فالس آخر السهرة)

(هفوات الدهشة) هفوات بصَرية ودهشة مبعثرة







(هفوات الدهشة)
هفوات بَصَريّة... ودهشة مبعثرة
-1-
أثار ديوان (هفوات الدهشة) للشاعر سلام الناصر عندنا درجة مماثلة من (الدهشة) من خلال أولاً اختيار (المفتتح البَصَري) كما يسميه الناقد عباس عبد جاسم، وهي لوحة رسمها الرسام العراقي المقيم في لندن يوسف الناصر، وهو رسام تعبيري وملوّن من طراز خاص، وثانياً من خلال اختيار العنوان، فلم نقتنع ان اختيارهما كان عشوائياً، ربما كان اختياراً (لا واعياً) ولكنه ليس عشوائياً فبورتريت الغلاف هو مناسبة لاكتشاف (الهفوات) التشريحية التي قد يعتقدها رسامون أكاديميون في تشريح الوجه، ربما رسامون من أولئك الذين طوقت رؤيتهم القوانين الأكاديمية حيث يثير تكنيك إنجازه أكثر من علاقة للدهشة، ذلك من الوجهة البصرية، أما من الناحية اللغوية، فان عتبة العنوان مستلة (كلها) من المتن، وليس كما يبدو من نتائج البحث غير المتقصي الذي ربما ينجزه أحد القراء الباحثين، (فهفوات) هو عنوان للقصيدة (18) وفي صفحة (58) من الديوان بينما ينبث النصف الثاني من العنوان، أي (الدهشة) في ثنايا متن الديوان بثلاث كيفيات هي: مباشرة ومقلوبة، ومبعثرة فقد وردت كلمة الدهشة في ثنايا الديوان عدة مرات منها:
(طوبى لتأويلك.../ لفزعك.../ للشرايين التي ضاقت مكبوتةً/ بالحلم المتسرّب بين الأصابع، للرُقي الفتي منذ عقود الانتشاء/ للتأقلم الفطري بحضارات الدهشة) (تباعاً) ص4
(على بساط الغيمات أحل/ مستنداً برخاوةٍ القطن / وفراغات الدهشة... كورت ظلاً للبهتة والخذلان)
(الشاهد رقم صفر) ص23.
(حين عدنا، تتقاذفنا انحدارات الرصيف/ أمسك عصباً تائهاً بمخمور ارتيابك/ وتفيق من دهشة الانحدار والابتكار)
(رفقة) ص32
كما وردت كلمة (دهشة) مقلوبة في عدة مواضع من الديوان: أولها عنوان قصيدة (مشهد) ص37، وهو نص يرتقي باليومي من الاهتمامات إلى مستوى الشعر.
كما وردت مقلوبة في قصيدة (ايفتسا) ص49.
(الضوء الدوار، بأطراف المطار، شاهد/ في كل لصفة حب، كنت عذرياً)
(من لي ببغداد غير الآه والطرق/ فخلتها صورةً من مشهدٍ قلق)
(بغداد)ص63.
وقد وردت محرفة قليلاً مرة:
(شدهنا مثلهم)
(أنامل) ص106.
وأحياناً وردت مبعثرة ومقلوبة داخل كلمة على طريقة الكلمات المتقاطعة:
(اصح على فجر صادق/ سترى حلم (سليمان)/ بمقهى الشاهبندر)
(براويز) ص45.
وربما مبعثرة في جملة:
(وهناك أشجار الخلود)
(مشهد) ص38
حيث جاء كل حرف في كلمة (هـ، ش، د) لتؤلف الفعل (دهش) مبعثراً وبذلك يكون غلاف المجموعة مدخلاً لغوياً -بصرياً يضم بين جنباته هفوات الشاعر التي يشعر بها جاثمة عليه، ودهشته البكر التي جلبت عليه مصيبة الشعر كلها.
-2-
ان واحدة من اكبر سمات نص سلام الناصر هو محاولته الارتقاء باليومي إلى الشعر ففي قصيدة (هفوات) يقول:
(سألتني الزوجة: ماذا انتخبت؟/ سألتها: ماذا انتخبتِ؟ فتوردت وجنات طفلتنا/ بأطياف العراق!)
(انتخابات)ص60
وكانت أهم سمة لهذا النمط من النصوص هي تركيزها (لخلاصة الحكمة):
(شجرة الرمان مزهرة/ هيفاء.../ بطول أمي)
(أمومة) ص61
(على وجه البحر يمشي/ المخلِّص.. وكنت غريقاً)
(يسوع) ص61
وكانت إحدى أهم سمات النصوص القصيرة، إضافة إلى صفتها المركزة وانتهائها بخلاصة كلمة في النهاية، هو بنيتها وفق شكل الهرم المعتدل حيث تكون الحكمة خلاصتها ونهايتها، بينما لا بنية واضحة للقصائد الطوال على الأغلب، ان واحدة من التقنيات التي يحاول سلام الناصر استخدامها هي إيراده جمع المؤنث السالم ساكن النهاية كقافية، وأحياناً ما يشابهه صوتاً:
(مالها تختفي بما تسمع في الباصات)
(طائعة تأتي فأتبعها السبات)
(ونصيد أجواء لها متباعدات/ قد لا يراها
غيرنا وسط الزعيق/ وبقايا الأغنيات/
سنحيلها زرقاً وخضراً حالمات)
(كلمات) ص77
(هذا/ الجسد المنخول... بالكلمات)
(ولهذا/ الجسد حاول... من أجل الثبات)
(بتكرار الذات)
(أرهق الجسدُ الذات)
(تداخل) ص12
(قمم كنوق راحلات/ إلى الأقاصي موحلات)
(رُشدت نحو الفرات)
(كنا ومازلنا عُراة)
(فيأرب أنت عاكفٌ ولانت أدرى/ بالحفاة)
(قمم كنوق متعبات)
(أيقظن مكنون السبات)
(واختناقات خفايا، مؤلمات)
(في متاهات المنافي، غاص أوداج الطغاة)
(نوق) ص16
(لا يطيقون الثناء، يختفون كالغيمات/
عاطلون... بعثهم الرحمن... يموتون وقوفاً/
على أبواب المجد الموروث، شموخ البواسل، آتْ)
(البواسل) ص83
وهناك عشرات الأمثلة الأخرى، وهي، وفق ذائقتنا التي لا نرغب بتعميمها تحول النص إلى لغة مسجوعة تجاوزها التكنيك الحديث لقصيدة النثر:
وتبلغ الرغبة في السجع أقصى مدياتها في نص (باب توما...)
(يتقاطرون لمى... عند الحديث... ينابيع ثمار/
قاطفات مرهفات (يا جماعة الخير) مرهفات...
عاشقات/ يشبهن النساء (عندنا) محض
افتراء/ أراني رضيعاً على صدر أم بثناء)
ص95
وفي نص (خطوط) ص11.
(ننسحب ... باتجاه القرفصاء/ زادنا...
خبز وماء/ نغمض اليمنى احتجاجاً/ وادخاراً
لحياة المومياء)
مما يجعل النص يبدو (ملفقاً) ليتلاءم وتلك الكلمات المسجوعة، تلك ذائقتنا نحن، ولا نحاول تعميم نتائجها فكهذا بدا لنا ديوان (هفوات الدهشة) لسلام الناصر، الذي صدر في تشرين الأول 2006 على نفقة صاحبه.

الأحد، 10 أغسطس 2008

أقنعة الرسام إسماعيل خياط





الوجه.. و القناع.. والذكرى
مناسبات للرسم

إذا كان الرسم مناسبة لوضع المادة، بمعناها الواسع والتي يندرج اللون ضمنها، على سطح اللوحة، فان الوجه البشري- ونصنف القناع كتمظهر من تمظهراته، بالنسبة لعدد من الرسامين العراقيين: إسماعيل فتاح الترك، وعلي طالب، وإسماعيل خياط ؛ لا يعدو ان يكون، هو الآخر، مناسبة لإثبات القدرة على وضع اللون على سطحه (= سطح اللوحة التي اتخذت جغرافيته السطحية)، ففي الوقت الذي كان فيه إسماعيل فتاح الترك ، هذا (النحات) يصرّف بعض شحناته من خلال الرسم، يضع اللون بمساحات واسعة (= لطخات) واسعة أحادية اللون يتخللها (شطب) و(تصحيحات) تهدف إلى كسر أحادية تلك المساحات التي كان يبني بها الترك الوجه البشري مانيكانا يمارس به وعليه مهاراته التعبيرية في الرسم، كان إسماعيل خياط يضع ألوانه بفوضوية عارمة لا حدود قواعدية لها إلا حدود جغرافية الأقنعة (= جغرافية اللوحات) التي يرسمها دون مخططات مسبقة، فكانت وجوها تسيح في اتجاهات شتى دونما ضوابط إلا إحساس الرسام، وتماما مثلما اتخذ الرسام علي طالب جغرافية الوجه الجانبي (البروفيل) شكلا للوحة، اتخذ إسماعيل خياط شكل القناع الأمامي هندسة لشكل اللوحة، فصارت فورانات الألوان احتداما لواقع الحياة ذاتها، ولمآسيها وأحزانها، بقايا رؤيا تلح عليه، رؤيا مأساوية لمجاميع من الناس المعرضين لعذابات شتى اختزنتها ذاكرته من مجازر مرت عليه في صباه، انه فوران ذكريات تلك الأيام العصيبة التي عاشها الكورد عبر تاريخهم الطويل، والمجازر التي تعرضوا لها، وأعنفها وأشدها قسوة حلبجة والأنفال، والحروب الطويلة التي خاضوها ضد الحكومات السابقة، فقد جاء في تعليق قصير لأحد المواقع الالكترونية عن أقنعة إسماعيل خياط "ان سلسلة الأعمال التي تستذكر مأساة الأنفال للرسام إسماعيل، الرئيس السابق لقسم الفنّون في وزارة الثقافة في كردستان، يشرّف الأكراد الـ182,000 الذين قتلوا في جريمة الأنفال. كانت أقنعة مرسومة بألوان مائية، وبالحبر الصيني، معبّرة، وملوّنة بجرأة، وتشكل مدونات تذكارية صنعها فنان هرب هو الآخر، من الإبادة الجماعية الفظيعة".

(وجوه) بأوضاع جانبية، و(أقنعة) بأوضاع أمامية
حينما كنا نتحدث عن الرسام علي طالب كنا نصف شخوصه بأنها (وجوه) تتخذ وضعا جانبيا؛ بينما كنا نصف شخوص إسماعيل خياط بأنها (أقنعة) تتخذ وضعا أماميا، ونقصد بهذا التفرقة بين هذين الرسامَين اللذين وان كانا يتخذان الآلية ذاتها، والتي تعرف بـ(ـالوضع الأمثل) إلا أنها كانت توصلهما إلى مفترق طرق بنتيجتين مختلفتين، فآلية الوضع الأمثل تنتهي بالوجه ليكون جانبيا، وهو ما توصل إليه الفراعنة والعراقيون القدامى، بينما لا يكون القناع في وضعه الأمثل إلا أماميا، وهو ما أدركه الأفريقيون في فنهم.
ان علي طالب في مرحلة الوجوه الجانبية من منجزه في الرسم، وإسماعيل فتاح الترك وإسماعيل خياط في (أقنعتهما) في الرسم، اختزلوا جهدهم في تجارب على الوجه البشري في تمظهريه: الوجه الجانبي، والقناع الأمامي؛ وقد جعلهم ذلك يواجهون مشكلات بصرية اقل تعقيدا من تلك التي واجهها فيصل لعيبي، حينما كان يرتكز على آلية الوضع الأمثل آلية ينظم استنادا إليها أوضاع أجزاء الجسد البشري، فكانت المشكلات التي واجهها فيصل لعيبي أكثر تعقيدا بما لا يقارن مع هؤلاء، فكان كل جزء من الجسد يتخذ وضعه الأمثل الضروري الذي يظهر أكثر خصائصه الشكلية جوهرية، وقد وصفت ذلك في مقال سابق لي نشرته في موقع (الأوان) ان فيصل لعيبي قد "استعار، من خلال الوضع الأمثل، نمطا من التشويه (الايجابي) في تحويره أشكال المشخصات التي تتخذ فيه أوضاعها الأكثر مثالية التي تُظهر أهم خصائصها الشكلية, وهو إجراء طبقته فنون حضارات عديدة منها: الفن الفرعوني، والفن الرافديني القديم، والفن الإسلامي؛ فالعين والأكتاف كانتا تتخذان الوضع الأمامي، بينما يتخذ الوجه والأقدام الوضع الجانبي دائما"

القناع مانيكانا
مثلما تشكل النحت الرافديني القديم من حشود غفيرة من الدمى الناسكة في حضرة الإله وهي تنظر في فراغ التاريخ الممتد أمامها بعيون مفتوحة على وسعها، تشكلت تجربة إسماعيل خياط من مئات الأقنعة الصارخة الواجمة الرمداء التي فقدت القدرة على الإبصار، وفقدت قدرتها على ضبط جغرافية أشكالها وضبط تكنيكها اللوني؛ فغدت فورة شكلية ولونية دموية لا قرار لها، وتماما مثلما أسس النحات هيثم حسن تجربة معرضه الأخير على نسخة مانيكانية واحدة أجرى عليها مختلف ضروب التحويرات، والإزاحات الشكلية كل مرة؛ فبدا معرضه حشدا غريبا من تلك المانيكانات الملونة المختلفة والمتشابهة معا، كذلك اتخذ إسماعيل خياط شكل القناع مانيكانا يستنسخه كل مرة، ويجري عليه ضروبا من الإزاحات الشكلية واللونية التي تمنحه كل مرة خصوصية عن أشكال الأقنعة الأخرى التي وان بدت متشابهة إلا أنها مختلفة كطبعات الأصابع المتشابهة والمختلفة في الوقت عينه.

وجود شيئي على سطوح أقنعته
ان الكائنات التي كان إسماعيل خياط يوزعها على سطوح لوحاته فيما مضى تجسدت الآن من خلال وجود شيئي على سطح أقنعته فبدت وكأنها عودة إلى تلك المادة الأولية لعناصر الموضوع التي يتركها فجة دونما مساس يغير جوهرها؛ عندما تظهر الأشكال والموجودات بشكل يعطي إحساسا بأننا, وجها لوجه, أمام المادة الغفل (=الجوهر الأول) وهي في طور تمازجها الأولي بالشكل, في مزيج أسميته مرة (العماء الشكلي).

(نسق) مستقل من الرسم العراقي
لقد كان اطلاعي على تجربة الرسام العراقي إسماعيل خياط التي قدم فيها عشرات الأقنعة، مناسبة جعلتني أفكر في رأي كنت صنفت على أساسه الرسام العراقي الكردي المقيم في بنسلفانيا صدر الدين أمين، فأعيد تصنيف هذين الرسامين باعتبارهما (نسقا) مستقلا من الرسم العراقي؛ حينما تشكلت لديهما أنماط من الـ(ـعلامات) الراسخة المستقرة في ذهنيهما للـ (ـشيء) بعد أن أخضعاه لمختلف ضروب تجاربهما المختبرية التي تضمنت قمعا للبعض من تلك العناصر، وتفعيلا للبعض الآخر ليتشكل بذلك نمط آخر محايث من الرسم نسميه تجاوزاً (تجريدياً)؛ ذلك انه يتخذ نسقاً (ثالثاً) بإصرار لا يلين، لتكون أشكاله موتيفات لأنماط شكلية ذات طبيعة خطية صلبة من أشكال هيكلية لمشخصات: كائنات شديدة الاختزال، وبشر متوحشين، وأقنعة، وسلاحف واسماك، وحيتان منخرطة في رقصة كونية يلتهم بعضها بعضا. وبذلك فهي تؤسس لنمط ثالث من الرسم (التجريدي) العراقي، لتنتهي كل تلك الاتجاهات التجريدية الثلاثة إلى تأسيس (نظام إشارات) من تلك المهيمنات الشكلية التي تهيمن على ذاكرة المبدع ، وتخضع لها كل الأشكال التي يرسمها، من خلال مزاوجة بين أشكال الواقع وأشكال الفن و(مشخصاتهما)من جهة، وبين النظام الإشاري الذي أسسه الرسام طيلة تجربته الماضية؛ فكان هؤلاء الرسامون : إسماعيل خياط، وصدر الدين أمين، وكريم رسن (في مرحلة سابقة من تجربته) ينتجون ويعيدون إنتاج إشاراتهم الهيكلية الخطية بإصرار لا يلين، باعتبار تلك الهياكل (جرثومة) يؤسسون عليها فن الرسم بعد ان كانوا يستلّونها من أزمان غائرة في القدم باعتبارها مازالت صالحة حتى الآن، مثلما كانت أيقونات هاشم حنون إشارات لونية غير خطية تنبع من مشخصات المدن التي علقت في ذاكرته، وهيمنت عليها، وبدت إشارات هناء مال الله، ونزار يحيى، وغسان غائب، وسامر أسامة أيقونات مسطحة تتخذ شكل اللوحة الخارجي الذي لم يكن دائماً مستطيلاً معتدلاً ، ولا صلة له بمشخصات الواقع، أيقونات انبعثت من تراكم تجارب التشكيل العراقي منذ عقود، توّجتْها تجارب رسامي العقد الستيني وما تلاه من أجيال.

أقنعة الرسام إسماعيل خياط

الوجه.. و القناع.. والذكرى
مناسبات للرسم

مناسبة لوضع المادة
إذا كان الرسم مناسبة لوضع المادة، بمعناها الواسع والتي يندرج اللون ضمنها، على سطح اللوحة، فان الوجه البشري- ونصنف القناع كتمظهر من تمظهراته، بالنسبة لعدد من الرسامين العراقيين: إسماعيل فتاح الترك، وعلي طالب، وإسماعيل خياط ؛ لا يعدو ان يكون، هو الآخر، مناسبة لإثبات القدرة على وضع اللون على سطحه (= سطح اللوحة التي اتخذت جغرافيته السطحية)، ففي الوقت الذي كان فيه إسماعيل فتاح الترك ، هذا (النحات) يصرّف بعض شحناته من خلال الرسم، يضع اللون بمساحات واسعة (= لطخات) واسعة أحادية اللون يتخللها (شطب) و(تصحيحات) تهدف إلى كسر أحادية تلك المساحات التي كان يبني بها الترك الوجه البشري مانيكانا يمارس به وعليه مهاراته التعبيرية في الرسم، كان إسماعيل خياط يضع ألوانه بفوضوية عارمة لا حدود قواعدية لها إلا حدود جغرافية الأقنعة (= جغرافية اللوحات) التي يرسمها دون مخططات مسبقة، فكانت وجوها تسيح في اتجاهات شتى دونما ضوابط إلا إحساس الرسام، وتماما مثلما اتخذ الرسام علي طالب جغرافية الوجه الجانبي (البروفيل) شكلا للوحة، اتخذ إسماعيل خياط شكل القناع الأمامي هندسة لشكل اللوحة، فصارت فورانات الألوان احتداما لواقع الحياة ذاتها، ولمآسيها وأحزانها، بقايا رؤيا تلح عليه، رؤيا مأساوية لمجاميع من الناس المعرضين لعذابات شتى اختزنتها ذاكرته من مجازر مرت عليه في صباه، انه فوران ذكريات تلك الأيام العصيبة التي عاشها الكورد عبر تاريخهم الطويل، والمجازر التي تعرضوا لها، وأعنفها وأشدها قسوة حلبجة والأنفال، والحروب الطويلة التي خاضوها ضد الحكومات السابقة، فقد جاء في تعليق قصير لأحد المواقع الالكترونية عن أقنعة إسماعيل خياط "ان سلسلة الأعمال التي تستذكر مأساة الأنفال للرسام إسماعيل، الرئيس السابق لقسم الفنّون في وزارة الثقافة في كردستان، يشرّف الأكراد الـ182,000 الذين قتلوا في جريمة الأنفال. كانت أقنعة مرسومة بألوان مائية، وبالحبر الصيني، معبّرة، وملوّنة بجرأة، وتشكل مدونات تذكارية صنعها فنان هرب هو الآخر، من الإبادة الجماعية الفظيعة".

(وجوه) بأوضاع جانبية، و(أقنعة) بأوضاع أمامية
حينما كنا نتحدث عن الرسام علي طالب كنا نصف شخوصه بأنها (وجوه) تتخذ وضعا جانبيا؛ بينما كنا نصف شخوص إسماعيل خياط بأنها (أقنعة) تتخذ وضعا أماميا، ونقصد بهذا التفرقة بين هذين الرسامَين اللذين وان كانا يتخذان الآلية ذاتها، والتي تعرف بـ(ـالوضع الأمثل) إلا أنها كانت توصلهما إلى مفترق طرق بنتيجتين مختلفتين، فآلية الوضع الأمثل تنتهي بالوجه ليكون جانبيا، وهو ما توصل إليه الفراعنة والعراقيون القدامى، بينما لا يكون القناع في وضعه الأمثل إلا أماميا، وهو ما أدركه الأفريقيون في فنهم.
ان علي طالب في مرحلة الوجوه الجانبية من منجزه في الرسم، وإسماعيل فتاح الترك وإسماعيل خياط في (أقنعتهما) في الرسم، اختزلوا جهدهم في تجارب على الوجه البشري في تمظهريه: الوجه الجانبي، والقناع الأمامي؛ وقد جعلهم ذلك يواجهون مشكلات بصرية اقل تعقيدا من تلك التي واجهها فيصل لعيبي، حينما كان يرتكز على آلية الوضع الأمثل آلية ينظم استنادا إليها أوضاع أجزاء الجسد البشري، فكانت المشكلات التي واجهها فيصل لعيبي أكثر تعقيدا بما لا يقارن مع هؤلاء، فكان كل جزء من الجسد يتخذ وضعه الأمثل الضروري الذي يظهر أكثر خصائصه الشكلية جوهرية، وقد وصفت ذلك في مقال سابق لي نشرته في موقع (الأوان) ان فيصل لعيبي قد "استعار، من خلال الوضع الأمثل، نمطا من التشويه (الايجابي) في تحويره أشكال المشخصات التي تتخذ فيه أوضاعها الأكثر مثالية التي تُظهر أهم خصائصها الشكلية, وهو إجراء طبقته فنون حضارات عديدة منها: الفن الفرعوني، والفن الرافديني القديم، والفن الإسلامي؛ فالعين والأكتاف كانتا تتخذان الوضع الأمامي، بينما يتخذ الوجه والأقدام الوضع الجانبي دائما"

القناع مانيكانا
مثلما تشكل النحت الرافديني القديم من حشود غفيرة من الدمى الناسكة في حضرة الإله وهي تنظر في فراغ التاريخ الممتد أمامها بعيون مفتوحة على وسعها، تشكلت تجربة إسماعيل خياط من مئات الأقنعة الصارخة الواجمة الرمداء التي فقدت القدرة على الإبصار، وفقدت قدرتها على ضبط جغرافية أشكالها وضبط تكنيكها اللوني؛ فغدت فورة شكلية ولونية دموية لا قرار لها، وتماما مثلما أسس النحات هيثم حسن تجربة معرضه الأخير على نسخة مانيكانية واحدة أجرى عليها مختلف ضروب التحويرات، والإزاحات الشكلية كل مرة؛ فبدا معرضه حشدا غريبا من تلك المانيكانات الملونة المختلفة والمتشابهة معا، كذلك اتخذ إسماعيل خياط شكل القناع مانيكانا يستنسخه كل مرة، ويجري عليه ضروبا من الإزاحات الشكلية واللونية التي تمنحه كل مرة خصوصية عن أشكال الأقنعة الأخرى التي وان بدت متشابهة إلا أنها مختلفة كطبعات الأصابع المتشابهة والمختلفة في الوقت عينه.

وجود شيئي على سطوح أقنعته
ان الكائنات التي كان إسماعيل خياط يوزعها على سطوح لوحاته فيما مضى تجسدت الآن من خلال وجود شيئي على سطح أقنعته فبدت وكأنها عودة إلى تلك المادة الأولية لعناصر الموضوع التي يتركها فجة دونما مساس يغير جوهرها؛ عندما تظهر الأشكال والموجودات بشكل يعطي إحساسا بأننا, وجها لوجه, أمام المادة الغفل (=الجوهر الأول) وهي في طور تمازجها الأولي بالشكل, في مزيج أسميته مرة (العماء الشكلي).

(نسق) مستقل من الرسم العراقي
لقد كان اطلاعي على تجربة الرسام العراقي إسماعيل خياط التي قدم فيها عشرات الأقنعة، مناسبة جعلتني أفكر في رأي كنت صنفت على أساسه الرسام العراقي الكردي المقيم في بنسلفانيا صدر الدين أمين، فأعيد تصنيف هذين الرسامين باعتبارهما (نسقا) مستقلا من الرسم العراقي؛ حينما تشكلت لديهما أنماط من الـ(ـعلامات) الراسخة المستقرة في ذهنيهما للـ (ـشيء) بعد أن أخضعاه لمختلف ضروب تجاربهما المختبرية التي تضمنت قمعا للبعض من تلك العناصر، وتفعيلا للبعض الآخر ليتشكل بذلك نمط آخر محايث من الرسم نسميه تجاوزاً (تجريدياً)؛ ذلك انه يتخذ نسقاً (ثالثاً) بإصرار لا يلين، لتكون أشكاله موتيفات لأنماط شكلية ذات طبيعة خطية صلبة من أشكال هيكلية لمشخصات: كائنات شديدة الاختزال، وبشر متوحشين، وأقنعة، وسلاحف واسماك، وحيتان منخرطة في رقصة كونية يلتهم بعضها بعضا. وبذلك فهي تؤسس لنمط ثالث من الرسم (التجريدي) العراقي، لتنتهي كل تلك الاتجاهات التجريدية الثلاثة إلى تأسيس (نظام إشارات) من تلك المهيمنات الشكلية التي تهيمن على ذاكرة المبدع ، وتخضع لها كل الأشكال التي يرسمها، من خلال مزاوجة بين أشكال الواقع وأشكال الفن و(مشخصاتهما)من جهة، وبين النظام الإشاري الذي أسسه الرسام طيلة تجربته الماضية؛ فكان هؤلاء الرسامون : إسماعيل خياط، وصدر الدين أمين، وكريم رسن (في مرحلة سابقة من تجربته) ينتجون ويعيدون إنتاج إشاراتهم الهيكلية الخطية بإصرار لا يلين، باعتبار تلك الهياكل (جرثومة) يؤسسون عليها فن الرسم بعد ان كانوا يستلّونها من أزمان غائرة في القدم باعتبارها مازالت صالحة حتى الآن، مثلما كانت أيقونات هاشم حنون إشارات لونية غير خطية تنبع من مشخصات المدن التي علقت في ذاكرته، وهيمنت عليها، وبدت إشارات هناء مال الله، ونزار يحيى، وغسان غائب، وسامر أسامة أيقونات مسطحة تتخذ شكل اللوحة الخارجي الذي لم يكن دائماً مستطيلاً معتدلاً ، ولا صلة له بمشخصات الواقع، أيقونات انبعثت من تراكم تجارب التشكيل العراقي منذ عقود، توّجتْها تجارب رسامي العقد الستيني وما تلاه من أجيال.